فهم الصحابة للقرآن وسبيل تحقيقه

هَدَفُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ هُوَ مَعْرِفَةُ كَيْفَ يَفْهَمُ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، لِنَفْهَمَ نَحْنُ أَيْضًا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ بِهَا، فَنَفُوزُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ، كَمَا فَازُوا، لِذَلِكَ أَعِرْنِي اهْتِمَامَكَ، وَتَرْكِيزَكَ، فَهَذَا الْهَدَفُ كَبِيرٌ جِدًّا، بِتَحْقِيقِهِ يَتَحَقَّقُ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْفَوْزُ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَبِالْإِخْفَاقِ فِي تَحْقِيقِهِ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَبَدِيُّ، فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَهْلِ النَّارِ:

﴿وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾ 

[الأعراف: ١٧٩]

لِذَلِكَ أَيُّهَا الْفَاضِلُ لَا بُدَّ لَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِعَوْنِ اللَّهِ، مِنْ أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

لِكَيْ نُحَقِّقَ هَذَا الْهَدَفَ قَسَّمْتُ هَذَا الْبَحْثَ إِلَى الْمَحَاوِرِ التَّالِيَةِ:

لِمَاذَا فَهْمُ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ لَمَّا كَثُرَتْ الْفِتَنُ، وَالْفِرَقُ، وَاشْتَبَهَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا رَغِبُوا فِي الْهِدَايَةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كِتَابِ الله الَّذِي أُنْزِلَ لِيُخْرِجَنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ:

﴿الر كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ بِإِذنِ رَبِّهِم إِلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ﴾ 

[إبراهيم: ١]

وَتَعَلَّقَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، تَزْعُمُ أَنَّهَا مُتَّبِعَةٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، اعْتَقَدَ النَّاسُ أَنَّ الْمُشْكِلَةَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ سَبَبَ ضَلَالِ الْفِرَقِ هُوَ فَهْمُهَا الْخَاطِئُ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ - وَهُوَ اعْتِقادٌ خاطِئٌ كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنتُ فِي مَقَالِ كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ - لِذَلِكَ ظَهَرَ مَنْ يُنَادِي بِاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ عُمُومًا، وَبِفَهْمِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا، ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ شَهِدُوا التَّنْزِيلَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ يُرْشِدُهُمْ فِي وَاقِعِ حَيَاتِهِمْ، وَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَزَكَّاهُمْ، لِذَلِكَ فَهْمُهُمْ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الْفَهْمُ الصَّحِيحُ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا نَمُوذَجًا حَيًّا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَامُلَهُمْ مَعَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي أَدَّى إِلَى فَهْمِهِمْ أَنَّهُ هُوَ التَّعَامُلُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَامَلَ بِهِ مَعَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِنَصِلَ لِمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ هَدَفُ هَذَا الْبَحْثِ، وَلَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ عِنْدَ أَغْلَبِ مَنْ يُنَادِي بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ فِي الْوَاقِعِ لَا يَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَلَا السُّنَّةَ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ فَهْمٍ حَقِيقِيٍّ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَا جَعَلَ هَذَا الْمُنَادِي يَبْقَى كَمَا كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُبَاشَرَةً، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، كَمَا سَوْفَ أُبَيِّنُ بِالشَّوَاهِدِ لَاحِقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

لِذَلِكَ أَعُودُ وَأُكَرِّرُ، نَحْنُ فِي هَذَا الْبَحْثِ سَوْفَ نَتَعَلَّمُ الْآلِيَّةَ الَّتِي تَعَامَلَ بِهَا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ، وَالَّتِي جَعَلَتْهُمْ يَرَوْنَهُ نُورًا مُبَيِّنًا، مَفْهُومًا، فَأَنَارَ دَرْبَهُمْ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِكَيْ نُطَبِّقَهَا نَحْنُ أَيْضًا مَعَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِنَفُوزَ كَمَا فَازُوا، وَبِسْمِ اللهِ نَشْرَعُ فِي بَيَانِهَا :

مَاذَا نَعْنِي بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ

نَعْنِي بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي فَهِمَهَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالطُّرُقِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَيْهِ.

هَذَا الْفَهْمُ هُوَ نَتِيجَةٌ لِشَرْطٍ تَحَقَّقَ فِي الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفِي آلَةٍ تَعَامَلُوا بِهَا مَعَ النَّصِّ، وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ:

رُؤْيَةُ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

سَبَقَ وَبَيَّنْتُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّ مَفْعُولَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْقَارِئِ، فَهُوَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ إِيمَانًا وَيَزِيدُ الْكَافِرَ كُفْرًا، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿وَإِذا ما أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُم زادَتهُ هذِهِ إيمانًا فَأَمَّا الَّذينَ آمَنوا فَزادَتهُم إيمانًا وَهُم يَستَبشِرونَ۝وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ﴾ 

[التوبة: ١٢٤-١٢٥]

لِذَلِكَ تَصَوُّرُكَ عَنْ الْوَحْيِ، وَإِيمَانُكَ بِهِ عَامِلٌ أَسَاسِيٌّ فِي تَحْدِيدِ مَا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ سَوْفَ يَكُونُ هِدَايَةً لَكَ أَمْ الْعَكْسَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَبِسَبَبِ جَهْلِهِمْ لَهَا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْفِرَقَ الضَّالَّةَ إِنَّمَا ضَلَّتْ بِفَهْمِهَا لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهَا ضَلَّتْ أَوَّلًا، ثُمَّ زَادَهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ضَلَالًا تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿قُل يا أَهلَ الكِتابِ لَستُم عَلى شَيءٍ حَتّى تُقيمُوا التَّوراةَ وَالإِنجيلَ وَما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنهُم ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ طُغيانًا وَكُفرًا فَلا تَأسَ عَلَى القَومِ الكافِرينَ﴾ 

[المائدة: ٦٨]

بِالنِّسْبَةِ لِلصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ آمَنُوا الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ زَادَهُمُ الْقُرْآنُ إِيمَانًا، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ أَحَدُهُمْ قَائِلًا:

كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا

إِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا عَرَبًا مُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَخَلَّوْا عَنْ جَمِيعِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وَتَصَوُّرَاتٍ وَأَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَسْلِيمًا مُطْلَقًا، يُشَكِّلُ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَتَصَوُّرَاتِهِمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ، الَّذِي صَاحِبَهُ سَوْفَ يَهْتَدِي بِالْوَحْيِ فِعْلًا.

لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تُسْلِمَ لِلَّهِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ لَا تَزَالُ مُتَمَسِّكًا بِمُعْتَقَدَاتِكَ الَّتِي وَرِثْتَ مُسْبَقًا، فَمَنْ كَانَ لِتُرَاثِهِ فِيهِ نَصِيبٌ، لَيْسَ بِمُسْلِمٍ خَالِصٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُهِمَّةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِفْتَاحُ التَّعَامُلِ الصَّحِيحِ مَعَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، حَيْثُ يُشَكِّلُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ شَخْصِيَّةَ الْمُسْلِمِ، وَفِكْرَهُ، وَتَصَوُّرَاتِهُ، وَهَذَا بِالضَّبْطِ مَا حَدَثَ مَعَ الصَّحَابَةِ، حَيْثُ كَانَ الْوَحْيُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ، بِمَعْنًى آخَرَ كَانَ يَظْهَرُ جَلِيًّا فِي حَيَاتِهِمْ الْوَاقِعِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ بِالْوَحْيِ فِعْلًا، حَيْثُ يَكُونُ وَاقِعًا مُعَاشًا، لَا مُجَرَّدَ أَلْفَاظِ تُرَدَّدُ لَيْسَ لَهَا تَطْبِيقٌ فِي الْوَاقِعِ.

أَدَوَاتُ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ

عِنْدَمَا تَلَقَّى الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّوْهُ بِلِسَانِهِمْ، شَاعِرِينَ بِأَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ، يَجِدُونَهُ يَسِيرًا جِدًّا، فَمِنْ النَّادِرِ جِدًّا أَنْ يُرَاجِعَ الصَّحَابَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَهَذَا مَا جَعَلَ تَطْبِيقَهُمْ لِلْوَحْيِ أَمْرًا مُمْكِنًا، فَهُمْ يَفْهَمُونَهُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ لِسَانُهُمْ.

لِذَلِكَ فَالْأَدَاةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الصَّحَابَةِ مَعَ الْإِيمَانِ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هِيَ لِسَانُ الْعَرَبِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَدَاةٌ غَيْرُهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ، وَفِيمَا يَلِي نَمَاذِجُ مِنْ تَعَامُلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ

أَمْثِلَةٌ حَيَّةٌ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

عِنْدَ الْبَحْثِ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ، لَا نَجِدُ الْكَثِيرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُقَارَنَةً بِالْأَبْوَابِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ مُبِينًا يَسِيرًا فَيُطَبِّقُونَهُ مُبَاشَرَةً دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى تَفْسِيرٍ أَوْ وَاسِطَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ حَفَظَ اللَّهِ لَنَا نَمَاذِجَ مِنْ تَعَامُلِهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ، تُؤَكِّدُ مَا سَبَقَ، فِيمَا يَلِي ذِكْرُ بَعْضِهَا

الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ

4511 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَلَمْ يُنْزَلْ: {مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187] " وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالخَيْطَ الأَسْوَدَ، وَلاَ يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ: {مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187] «فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ»

[البخاري، صحيح البخاري، ٢٦/٦]

تُلَاحِظُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ طَبَّقَ الْآيَةَ بِشَكْلٍ حَرْفِيٍّ تَمَامًا، وَلَمْ يُكَلِّفْ نَفْسَهُ السُّؤَالَ عَنْهَا، لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ لَهُ وَاضِحَةٌ جِدًّا.

اللَّهُ لَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَا رَسُولُهُ، وَإِنَّمَا فَقَطْ أَنْزَلَ تَكْمِلَةً لِلْآيَةِ تُبَيِّنَ لَهُمْ الْمَقْصُودَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ.

التَّسَوُّقُ بَعْدَ الْحَجِّ

ذَكَرْتُ آنِفًا انْسِلَاخَ الصَّحَابَةِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَيْرُ شَاهِدٍ:

4519 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " كَانَتْ عُكَاظُ، وَمَجَنَّةُ، وَذُو المَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي المَوَاسِمِ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ "

[البخاري، صحيح البخاري، ٢٧/٦]

مَحَلُّ الشَّاهِدِ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ فَهِمَهَا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَوْرًا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا فِي لِسَانِهِمْ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى وَسِيطٍ.

بَيْرُحَاءَ

فِي هَذَا الْحَدِيثِ:

4554 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: «ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ»، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ «مَالٌ رَايِحٌ»،

[البخاري، صحيح البخاري، ٣٧/٦]

مِثَالٌ حَيٌّ عَلَى فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ وَتَطْبِيقِهِ فَوْرًا.

الطَّائِفَتَانِ

كَذَلِكَ نَجِدُ فِي :

4558 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: " فِينَا نَزَلَتْ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ، وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلِمَةَ وَمَا نُحِبُّ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً - وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] "

[البخاري، صحيح البخاري، ٣٨/٦] 

صُورَةً حَيَّةً مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلْقُرْآنِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ.

الظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ

سَبَقَ وَذَكَرْتُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَفْهَمُونَ الْوَحْيَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى فِي لسَانِ الْعَرَبِ عَنْ الْمُرَادِ، أَوْ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَهَذَا نَادِرًا مَا يَكُونُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ:

3360 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: " لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "

[البخاري، صحيح البخاري، ١٤١/٤]

فَكَلِمَةُ "ظُلْمٍ" الْوَارِدَةُ فِي الْآيَةِ نَكِرَةٌ، وَالنَّكِرَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمِنْ ثَمَّ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَهَذَا مَا أَثْقَلَ عَلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ عِنْدَهُ مَخْرَجًا، وَقَدْ كَانَ، حَيثُ قَيَّدَ لَهُمْ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ.

خَصَائِصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

إِذَا سَأَلْتَ أَغْلَبَ النَّاسِ عَنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ فِي الْغَالِبِ لَا يَتَعَدَّى كَوْنَ الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ، وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَعْكِسُ فِي الْوَاقِعِ جَهْلَنَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، لِذَلِكَ لَابُدَّ لَنَا مَنْ تَعَلُّمِ بَعْضِ الْخَصَائِصِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، الَّتِي لَا يَسَعُنَا جَهْلُهَا

بَيَانُ وَيُسْرُّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

اعْلَمْ هَدَانِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ السِّمَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةَ هِيَ الْبَيانُ ، فَهُمَا بَيَانٌ :

﴿هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقينَ﴾ 

[آل عمران: ١٣٨]

وَهُما بَيِّناتٌ 

﴿وَلَقَد أَنزَلنا إِلَيكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكفُرُ بِها إِلَّا الفاسِقونَ﴾ 

[البقرة: ٩٩]

وَهُما تِبيانٌ لِكُلِّ شَيءٍ:

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل: ٨٩]

وَهُما تَفصيلُ كُلِّ شَيءٍ

﴿لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ ما كانَ حَديثًا يُفتَرى وَلكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ 

[يوسف: ١١١]

وَهُما مُبَيِّناتٍ 

﴿وَلَقَد أَنزَلنا إِلَيكُم آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقينَ﴾ 

[النور: ٣٤]

وَلَوْ أَرَدْنَا تِعْدَادَ الْآيَاتِ الَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنْ بَيَانِ الْوَحْيِ قُرْآنًا وَسُنَّةً لَطَالَ بِنَا الْمَقَامُ، لِذَلِكَ نَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ

الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ نُورٌ

فِي الْوَاقِعِ إِنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ فَقَطْ مُبِيناً، بَلْ هُوَ أَيْضاً نُورٌ مُبِينٌ:

﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِّكُم وَأَنزَلنا إِلَيكُم نورًا مُبينًا﴾ 

[النساء: ١٧٤]

وَالنَّاسُ مَعَ النُّورِ الْمُبِينِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى مُبْصِرٍ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَالْأَعْمَى وَهُوَ الْكَافِرُ، وَلِذَلِكَ نَفْهَمُ قَوْلَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ:

﴿مَثَلُ الفَريقَينِ كَالأَعمى وَالأَصَمِّ وَالبَصيرِ وَالسَّميعِ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾ 

[هود: ٢٤]

فهم الصحابة للقرآن والسنة

فَأَنْتَ إِمَّا مُبْصِرٌ تَرَى النُّورَ وَيُنِيرُ دَرْبَكَ، تَمْشِي بِهِ بَيْنَ النَّاسِ:

﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ 

[الأنعام: ١٢٢]

أَوْ تَتَخَبَّطُ فِي الظُّلُمَاتِ، لَمْ تَرَ نُورَ اللهِ قَطُّ:

كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا

فَأَنتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَعْرِفُ النُّورَ، وَلَا تَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ أَصْلًا، لِذَلِكَ تَعْتَقِدُ أَنَّكَ عَلَى صَوَابِ

كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

وَلِكَيْ تَتَصَوَّرَ هَذِهِ الْحَالَةَ، اُنْظُرْ إِلَى شَخْصٍ أَعْمَى لَمْ يَرَ النُّورَ قَطُّ، هَذَا الشَّخْصُ النُّورُ لَيْسَ مَوْجُودٌ بِالنِّسْبَةِ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يَعْرِفُ الْأَلْوَانَ وَلَا يُمْكِنُهُ تَصَوُّرَهَا، كَمَا لَا يُمْكِنُهُ أَبَدًا إِدْرَاكُ أَنَّهُ فِي ظَلَامٍ مُطْبِقٍ، فَهُوَ مِثْلُ الْكَافِرِ تَمَامًا الَّذِي لَمْ يَرَ نُورَ الْوَحْيِ قَطُّ.

الْكِتَابُ أُنْزِلَ لِبَيَانِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ

تَأْكِيدًا لِلصِّفَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، بَيَانِ الْوَحْيِ، وَكَوْنِهِ نُوراً، فَإِنَّ الْوَحْيَ قُرْآنًا وَسُنَّةً إِنَّمَا أُنْزِلَ لِبَيَانِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ 

[النحل: ٦٤]

فَهُوَ مَصْدَرٌ لِفَضِّ النِّزَاعَاتِ، لِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ التَّحَاكُمَ إِلَيْهِ حَصْرًا، شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنازَعتُم في شَيءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلًا﴾ 

[النساء: ٥٩]

يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَنَا فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَهُمَا نُورٌ مُبِينٌ فِيهِما تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَا فِيهِ اخْتِلَافَاتُنَا.

لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ لَمَّا حِيلَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْوَحْيِ اعْتَبَرُوهُ مَصْدَرَ الِاخْتِلَافِ، بَدَلَ أَنْ يَكُونَ بَيَانٌ لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنْ آلَافِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَفْتَحْ عُيُونَهُمْ إِلَّا عَلَى حَدِيثِ بَنِي قُرَيْظَةَ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ:

946 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ

[البخاري ,صحيح البخاري ,2/15]

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ كَانَ مَرَدُّهُ لَفْظَ الْحَدِيثِ، لَا الظُّرُوفَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا، هَلْ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَحِيدُ هُوَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي نَسْتَنْتِجُ مِنْهَا أَنَّ الْوَحْيَ مُشْكِلٌ، وَتَكُونُ آلَافُ الْأَحَادِيثِ، وَآلَافُ الْآيَاتِ، الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الصَّحَابَةُ هِيَ الِاسْتِثْنَاءُ؟!

إِنَّ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَارِدٌ فِي النُّصُوصِ، قَوْمٌ لَمْ يُؤْمِنُوا أَصْلًا بِبَيَانِ الْوَحْيِ لِكُلِّ شَيْءٍ بِمَا فِيهِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَاعْتَبَرُوا الْوَحْيَ مُشْكِلًا، غَامِضًا، زَادَهُمْ الْوَحْيُ فِي ذَلِكَ، مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ﴾ 

[التوبة: ١٢٥]

فَالْمَرَضُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الشَّكُّ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَزَادَهُمْ حَدِيثُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِيهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِهِمْ.

نَظْرَتُنَا لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ الصَّرِيحَةِ، فَإِنَّنَا فِي الْوَاقِعِ نَكْفُرُ بِهَا عَمَلِيًّا، فَالْقُرْآنُ عِنْدَنَا أَشْبَهُ مَا يَكُونُ بِلُغْزٍ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، لَا أَحَدَ مِنْ الْخَاصَّةِ، فَضْلًا عَلَى الْعامَّةِ يَجْرُؤُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْكِيرِ فِي فَهْمِهِ مُبَاشَرَةً، وَهَذَا أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَيْسَ مَحَلَّ جِدَالٍ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الدُّكْتُوَر سَعِيدٍ الْكُمْلِيِّ:

لِذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَمَا فَهِمَهُما الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ سَيَزِيدُنَا اعْتِقَادًا أَنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ، فَنَحْنُ عَلَى أَبْصَارِنَا غِشَاوَةٌ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَمِنْ ثَمَّ نَتَخَبَّطُ فِي الظُّلُمَاتِ مُخْتَلِفِينَ أَشَدَّ الِاخْتِلَافِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.

إِنَّ مِمَّا سَاعَدَ عَلَى تَشَكُّلِ هَذَا الْمُعْتَقَدِ الْفَاسِدِ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَعْضُ الْمَسَائِلِ أَعْرِضُ فِيمَا يَلِي أَهَمَّهَا:

عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ

فَأَغْلَبُنَا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَبَيْنَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، لِذَلِكَ قَدْ يَرَى تَدَبُّرًا لِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَتَصَوَّرُ أَنَّهُ هُوَ مَعْنَاهَا، وَمِنْ هُنَا يَزْدَادُ اعْتِقَادًا أَنَّ الْقُرْآنَ صَعْبُ الْفَهْمِ.

قَبْلَ أَنْ أُعْطِيكَ مِثَالًا عَلَى الْخَلْطِ بَيْنَ التَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ، دَعْنِي أَوَّلًا أَوَضِّحَ لَكَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَأَقُولُ:

إِنَّ فَهْمَ الْآيَةِ هُوَ إِدْرَاكُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ مَيْسُورٌ، قَدْ لَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ فِيهِ إِلَّا لِقَامُوسٍ لِمَعْرِفَةِ مَعْنَى كَلِمَةٍ مُعَيَّنَةٍ.

أَمَّا التَّدَبُّرُ فَهُوَ اسْتِخْلَاصُ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فُهِمَ مِنْ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الدُّرُوسُ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، فَقَدْ يَفْتَحُ لَكَ اللَّهُ مِنْ كُنُوزِ آيَةٍ مَا لَمْ يَفْتَحْ لِغَيْرِكَ، وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَكَ لَمْ يَفْهَمْ الْآيَةَ، أَوْ أَنَّ لَهَا مَعَانٍ كَثِيرَةً، وَلِنَضْرِبَ مَثَلًا عَلَى ذَلِكَ:

إِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿إِذا جاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ۝وَرَأَيتَ النّاسَ يَدخُلونَ في دينِ اللَّهِ أَفواجًا۝فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إِنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ 

[النصر: ١-٣]

فَإِنَّنَا لَا نَجِدُ كَلِمَةً مُشْكِلَةً، وَالْمَعْنَى فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، فَالشَّرْطُ هُوَ الْفَتْحُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَجَوَابُهُ تَسْبِيحُ اللَّهِ وَحَمْدُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ، وَهَذَا مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:

4967 - حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1] إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»

[البخاري ,صحيح البخاري ,6/178]

إِذَا تَدَبَّرْنَا الْآيَاتِ السَّابِقَةَ فَقَدْ نَخْرُجُ بِفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَا حَصْرَ لَهَا، مِنْهَا مَا فَهِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

4970 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1]؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا، وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: «هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ»، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1] «وَذَلِكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ»، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، فَقَالَ عُمَرُ: «مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ»

[البخاري ,صحيح البخاري ,6/179]

فَابْنُ عَبَّاسٍ يَعْلَمُ أَنَّ مُهِمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ هِدَايَةُ النَّاسِ، فَإِذَا اهْتَدَى النَّاسُ تَكُونُ مُهِمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اكْتَمَلَتْ، وَبِالتَّالِي انْتَهَى سَبَبُ وُجُودِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ أَنَّهَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبَرُ بِهِ.

هَلْ هَذَا هُوَ الِاسْتِنْتَاجُ الْوَحِيدُ مِنْ الْآيَاتِ؟

الْجَوَابُ لَا حَتْمًا، فَكُلُّ آياتِ الْقُرْآنِ كَنْزٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، وَمِصْداقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

﴿وَلَو أَنَّما فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلامٌ وَالبَحرُ يَمُدُّهُ مِن بَعدِهِ سَبعَةُ أَبحُرٍ ما نَفِدَت كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾ 

[لقمان: ٢٧]

هَلْ مَعْنَى سُورَةِ النَّصْرِ أَنَّهَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ؟

الْجَوَابُ لَا، فَمَعْنَاهَا هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا وَكَوْنُهَا أَجَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَنْتَجٌ مِنْهَا.

لِلْأَسَفِ عِنْدَمَا يَقْرَأُ أَعْمَى سُورَةَ النَّصْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُهَا لِأَنَّهُ أَصْلًا مُقْتَنِعٌ أَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ فَهْمُها لِذَلِكَ لا يَجْرُؤ عَلَى مُجَرَدِ التَّفْكِيرِ فِي مَعْنَاهَا، وَعِنْدَمَا يَقْرَأُ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقَ يَتَأَكَّدُ لَهُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُعَقَّدَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ تَذْكُرَهُ، فَيَزْدَادُ اعْتِقَادًا أَنَّ الْقُرْآنَ غَايَةٌ فِي الصُّعُوبَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى الَّذِي أَصَابَهُ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَهْمِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ

كَذَلِكَ مِمَّا رَسَّخَ فِي النَّاسِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَعْبُ الْفَهْمِ، هُوَ الْخَلْطُ بَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَبَيْنَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْوَحْيِ، وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ جَمعٍ لِلنُّصُوصِ، وَمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْهَا، وَالْمَنْسُوخِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِذَلِكَ تَوَهَّمَ أَغْلَبُ النَّاسِ أَنَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ صَعْبٌ جِدًّا، وَدَعْنِي أَضْرِبُ لَكَ مَثَلًا مِنْ الْقُرْآنِ لِتَفْهَمَ الْفَارِقِ بَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ

يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: 

﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فيهِما إِثمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثمُهُما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما وَيَسأَلونَكَ ماذا يُنفِقونَ قُلِ العَفوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرونَ﴾ 

[البقرة: ٢١٩]

إِذَا قَرَأْتَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَفَكَّرْتَ فِي مَعْنَاهَا أَدْرَكتَ أَنَّهَا وَاضِحَةٌ، يَسِيرَةُ الْفَهْمِ، غَيْرُ مُعَقَّدَةٍ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلَا تُفِيدُ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِشَكْلٍ صَرِيحٍ، لِذَلِكَ إِذَا أَرَدْنَا اسْتِنْبَاطَ حُكْمِ الْخَمْرِ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ حَوْلَهُ، حَتَّى تَكْتَمِلَ عِنْدَنَا الصُّورَةُ

إِنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَا يَعْنِي أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ السَّابِقَةِ مُعَقَّدَةٌ أَوْ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا قَالَهُ اللَّهُ حَوْلَ الْآيَةِ.

لِلْأَسَفِ بَعْضُ الْعُمْيَانِ يَخْلِطُونَ بَيْنَ الْفَهْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَيُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَالْعَامَّ وَالْخَاصَّ وَالْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، وَهُمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ أغْلَبَ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْوَحْيِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا نَادِرًا بِفَهْمِ الْوَحْيِ قُرْآنًا وَسُنَّةً.

كُتُبُ التَّفَاسِيرِ

مِمَّا أَكَّدَ لِلنَّاسِ صُعُوبَةَ الْقُرْآنِ كَثْرَةُ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ وَاخْتِلَافِهَا الشَّدِيدِ فِيمَا بَيْنَهَا، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ عَدَمُ قُدْرَةِ الْقَارِئِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَبَيْنَ ما يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُ مِنْ خِلَافٍ فِيهَا وَمَا رُوِيَ حَوْلَهَا مِنْ أَقْوَالٍ، فَتَكُونُ الْمُحَصِّلَةُ أَنَّ الْآيَةَ غَايَةٌ فِي الصُّعُوبَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَا سَبِيلَ إِلَى فَهْمِهَا مُطْلَقًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ وَبَيْنَ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ

إِنَّنَا نَدْعُو إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ إِلى تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، وَالْفَرْقُ شَاسِعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَمَنْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ، مُبْصِرٌ لِنُورِهِ، وَبِالتَّالِي هُوَ مُؤْمِنٌ، أَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ أَعْمَى يُكَرِّرُ كَلَامَ غَيْرِهِ دُونَ إِدْرَاكٍ وَهَذَا هُوَ مَثَلُ الْكَافِرِ:

﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾

[هُودٌ: ٢٤]

إِنَّ أَغْلَبَ مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ هُوَ اسْتِنْتَاجَاتٌ لِتَدَبُّرِهِمْ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَفْسِيرٌ بِالْمِثَالِ دُونَ إِرَادَةِ الْحَصْرِ، فَإِذَا أَتَى الْأَعْمَى الْمُقَلَّدُ فَإِنَّهُ سَوْفَ يَعتَبِرُ ذَلِكَ الِاسْتِنْتَاجَ، هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا مَعْنَى لَهَا سِوَاهُ، إِذَا أَرَدْتَ مُنَاقَشَتَهُ قَالَ لَكَ هَلْ أَنْتَ أَفْهَمُ لِلْآيَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ؟

أَوْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ الْمِثَالَ هُوَ الْمَعْنَى الْحَصْرِيُّ، وَهُوَ لَا يُدْرِكُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ يُجِيبُ أَحَدُهُمْ بِالْمِثَالِ لِيُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ الَّذِي هُوَ عَرَبِيٌّ مِثْلُهُ صُوَرًا حَيَّةً مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْحَصْرَ.

لِذَلِكَ نُرِيدُ أَنْ نَرَى نُورَ الْوَحْيِ فِعْلًا، أَيْ نَفْهَمُهُ بِأَنْفُسِنَا كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ فَنَفُوزُ كَمَا فَازُوا وَهَذَا مَا سَوْفَ نَتَنَاوَلُهُ فِيمَا يَلِي:

كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ

لِكَيْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَغَيَّرَ مِنَ الدَّاخِلِ، فَنُصَدِّقَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِعْلًا نُورٌ مُبِينٌ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿يا أَهلَ الكِتابِ قَد جاءَكُم رَسولُنا يُبَيِّنُ لَكُم كَثيرًا مِمّا كُنتُم تُخفونَ مِنَ الكِتابِ وَيَعفو عَن كَثيرٍ قَد جاءَكُم مِنَ اللَّهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ﴾ 

[المائدة: ١٥]

فَنَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهِ وَنَنْزِعُ هَذِهِ الْغِشَاوَةَ مِنْ عَلَى أَبْصَارِنَا، وَسَاعَتَهَا سَوْفَ تَبْدَأُ الْغِشَاوَةُ تَنْزَاحُ شَيْئًا فَشَيْئًا.

الْأَمْرُ لَيْسَ سَهْلًا، فَنَحْنُ مُعْتَادُونَ عَلَى الْبَحْثِ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ دُونَ التَّفْكِيرِ أَصْلًا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، لِذَلِكَ قَدْ نَحْتَاجُ عِدَّةَ مُحَاوَلَاتٍ حَتَّى نَبْدَأَ فِي ابْصَارِ نُورِ الْوَحْيِ، تَماماً كَالْأعمى الَّذي يُحاوِلُ الإبصارَ، قَدْ يَحتاجُ عِدَةَ عَمَلِياتٍ حَتى يُبصِرَ فِي النِّهايَةِ.

كَذَلِكَ لَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَةٍ كَافِيَةٍ بِالْعَرَبِيَّةِ لِكَيْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ لَا نَحْتَاجُ إِلَى التَّبَحُّرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَيْ نَفْهَمَ جُلَّ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ وَبَيَّنَهُ.

إِذَا تَحَقَّقَ مَا سَبَقَ فَإِنَّنَا سَنَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَمَا فَهِمَهُما الصَّحَابَةُ، وَيَبْقَى تَدَبُّرُهُ الَّذِي يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِ. 

أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ أَكُونَ وُفِّقْتُ فِي إِقْنَاعِكَ بِبَيَانِ الْوَحْيِ قُرْآنًا وَسُنَّةً وَيُسْرِهِ، وَأَنْ تَبْدَأَ تَقْرَأُهُ وَأَنْتَ مُقْتَنِعٌ أَنَّهُ بَيِّنٌ يَسِيرٌ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ أَنْتَ تَحْدِيدًا، لِتَعْمَلَ بِهِ وَتَعِيشَهُ وَاقِعًا فِي حَيَاتِكَ ،اللَّهُمَّ آمِينَ.

إِذَا كَانَ عِنْدَكَ اعْتِرَاضٌ، أَوْ مُلَاحَظَةٌ، عَلَى مَا سَبَقَ، فَاكْتُبْهَا فِي تَعْلِيقٍ رَجَاءً، حَتَّى نُنَاقِشَهَا لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِمَّنْ يَسْتَنِيرُونَ بِالْوَحْيِ فِي الدُّنْيَا، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا توبوا إِلَى اللَّهِ تَوبَةً نَصوحًا عَسى رَبُّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ يَومَ لا يُخزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ نورُهُم يَسعى بَينَ أَيديهِم وَبِأَيمانِهِم يَقولونَ رَبَّنا أَتمِم لَنا نورَنا وَاغفِر لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ 

[التحريم: ٨]

وَآخِرُ دَعْوَانًا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. 

تحميل البحث بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-