إِذَا سَأَلْتَ أَيَّ فَقِيهٍ، هَلْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ، أَوْ الدِّلَالَةِ؟
لَقَالَ لَكَ نَعَمْ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ، فَأَغْلَبُ آيَاتِ الْقُرْآنِ ظَنِّيَّةُ الدِّلَالَةِ، لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ، فَكُلُّ أَحَادِيثِ الْآحَادِ ظَنِّيَّةُ الثُّبُوتِ، وَأَغْلَبُهَا ظَنِّيُّ الدِّلَالَةِ أَيْضًا.
وَإِذَا سَأَلْتَهُ مَا مَعْنَى ظَنِّي الثُّبُوتِ، وَظَنِّي الدَّلَالَةِ، لَقَالَ لَكَ أَنَّ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ يَعْنِي أَنَّنَا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَوْ فَعَلَ الْحَدِيثَ، وَظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ يَعْنِي أَنَّ دَلَالَتَهُ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، وَتَقْبَلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى.
مَا سَبَقَ يَجْعَلُنَا حَرْفِيًا لَا نَتَّبِعُ إِلَّا الظَّنَّ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّنَا حِينَ نَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾
[الأنعام: ١١٦]
نَجِدُ أَنَّهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْنَا تَمَامًا، فَنَحْنُ لَا نَتَّبِعُ إِلَّا الظَّنَّ وَبِاعْتِرَافِنَا، فَكَيْفَ الْمَخْرَجُ مِنْ هَذَا الْمَأْزِقِ الْخَطِيرِ؟
وَهَلْ فِعْلًا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ أَوْ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ؟
تَعَالَ بِنَا أَيُّهَا الْقَارِئُ نَسْأَلُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ هَذَا السُّؤَالَ، لِنَرَ الْجَوَابَ الْفَصْلَ، وَذَلِكَ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿فَإِن تَنازَعتُم في شَيءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلًا﴾
[النساء: ٥٩]
فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ؟
عِنْدَمَا نَبْدَأُ قِرَاءَةَ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ الَّتِي نَقْرَأُهَا قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ﴾
[البقرة: ٢]
وَلنَقِفْ وَقْفَةً تَأَمُّلِيَّةً مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ.
ذَكَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صِفَتَيْنِ لِلْوَحْيِ، وَهُمَا:
أَوَّلًا أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ؛
ثَانِيًا أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.
الصِّفَةُ الْأُولَى تَنْفِي كُلَّ أَنْوَاعِ الرَّيْبِ عَنْهُ، فَهُوَ قَوْلٌ فَصْلٌ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿إِنَّهُ لَقَولٌ فَصلٌ﴾
[الطارق: ١٣]
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ، وَلَا فِي دَلَالَتِهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ قَوْلًا فَصْلًا بِأَيِّ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ تُؤَكِّدُ الْأُولَى، وَهِيَ كَوْنُهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَالْهِدَايَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتِمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ قَوْلًا فَصْلًا، قَاطِعًا، حَاسِمًا، لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى شَكٍّ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
هُنَاكَ مُلَاحَظَةٌ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ فِي الصِّفَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُتَّقِينَ، فَكَوْنُهُ هُدًى صِفَةٌ لَهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ خَاصَّةً، وَيُؤَكِّدُ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْآيَاتِ، مِنْهَا:
﴿وَلَقَد جِئناهُم بِكِتابٍ فَصَّلناهُ عَلى عِلمٍ هُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾
[الأعراف: ٥٢]
وقوله:
﴿وَإِذا لَم تَأتِهِم بِآيَةٍ قالوا لَولَا اجتَبَيتَها قُل إِنَّما أَتَّبِعُ ما يوحى إِلَيَّ مِن رَبّي هذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُم وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾
[الأعراف: ٢٠٣]
وقوله
﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾
[النحل: ٦٤]
فَهُوَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ هُمْ مَنْ يَجِدُونَهُ هُدًى وَرَحْمَةً، أَيْ لَا يَجِدُونَهُ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ أَوْ الدِّلَالَةِ، لِأَنَّ مَنْ يَجِدُهُ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ أَوْ الدِّلَالَةِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ هُدًى، بَلْ سَوْفَ يَعْتَبِرُهُ مَصْدَرًا لِلِاخْتِلَافِ، وَهَذَا مَا تَمَّ بِالْفِعْلِ، فَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ سَبَبُهُ عَدَمُ قَطْعِيَّةِ ثُبُوتِ النَّصِّ، أَوْ عَدَمُ قَطْعِيَّةِ دَلَالَتِهِ، كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنَّا.
لَعَلَّكَ تَتَسَاءَلُ لِمَاذَا أَغْلَبُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ يُؤَكِّدُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ فِيهِ مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ، أَوْ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ؟
وَالْجَوَابُ هُوَ نَفْسُ جَوَابِ السُّؤَالِ الَّذِي طَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ لِمَاذَا يَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْ كُلَّ شَيْءٍ أَبْلَغَ بَيَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْدَأُ بِتَقْلِيدِ شَخْصٍ مَا، يَقُولُ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ، وَأَنَّ أَغْلَبَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ ظَنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، ثُمَّ يَزِيدُهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةَ تَمَسُّكًا بِهَذَا الْمُعْتَقَدِ الْفَاسِدِ، كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنْتُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَقَالِ كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَهَكَذَا يُصْبِحُ الْأَمْرُ مُسَلَّمًا بِهِ مَعَ تَقَادُمِ الْأَجْيَالِ، خَارِجَ إِطَارِ النَّقْدِ، كَمَا بَيَّنْتُ أَيْضًا فِي بَحْثٍ كَيْفَ نَكُونُ مُسْلِمِينَ حَقًّا.
إِنَّ الْفُقَهَاءَ حِينَ تَسْأَلُهُمْ عَنْ مُسْتَنَدِهِمْ فِي اعْتِبَارِ بَعْضِ النُّصُوصِ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ، يَقُولُونَ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةَ أَحْيَانًا تَقْبَلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ يَغْفُلُ عَنْ جَانِبٍ مُهِمٍّ وَهُوَ جَمْعُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَعَ بَعْضِهَا حَتَّى تَكْتَمِلَ الصُّورَةُ، وَسَاعَتَهَا سَوْفَ تَكُونُ الدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةً وَلَابُدَّ، لِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ نُورٌ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِّكُم وَأَنزَلنا إِلَيكُم نورًا مُبينًا﴾
[النساء: ١٧٤]
وَالنُّورُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ الْمُبْصِرُ فِي رُؤْيَتِهِ، لِذَلِكَ مُشْكِلَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَعْزِلُونَ الْمُفْرَدَةَ عَنْ بَقِيَّةِ الْوَحْيِ، وَسَاعَتُهَا سَوْفَ تَبْقَى ظَنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَلَا بُدَّ، مَثَلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ وَامسَحوا بِرُءوسِكُم ﴾
[المائدة: ٦]
قَالُوا الْبَاءَ قَدْ تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ تَعْنِي الْإِلْصَاقَ، وَقَدْ تَعْنِي التَّبْعِيضَ، وَلِذَلِكَ هِيَ ظَنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا لَوْ لَمْ يَنْزِلْ غَيْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوُضُوءِ، أَمَّا وَقَدْ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ، وَمَسَحَ بِكَامِلِ رَأْسِهِ، وَأَعَادَ مَسْحَهُ، فَلَا، لِأَنَّ الْبَاءَ هُنَا صَارَتْ تَعْنِي الْإِلْصَاقَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَمْ تَعُدْ ظَنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ كَمَا زَعَمْتُمْ.
وَإِذَا سَأَلْتَ الْفُقَهَاءَ لِمَاذَا تَعْتَبِرُونَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، يَكُونُ رَدُّهُمْ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ رَاوٍ مِنْ رُوَاتِهِ يَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَارِدٌ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ تَلَافِيهِ وَضَعْنَا شُرُوطَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَتَّى نَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّ أَيَّ رَاوٍ لَمْ يُخْطِئْ فِي رِوَايَتِهِ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْكُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، فَنَحْنُ لَا نَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّنَا لَا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَالَهُ، لِذَلِكَ ضَعَّفْنَاهُ.
ثَانِيًا كَوْنُ الْمُتَوَاتِرِ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ، لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ غَيْرُ قَطْعِيِّ الثُّبوتِ أَيْضًا، فَمَا هُوَ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ لَيْسَ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَبَعْضُهُ أَشَدُّ قَطْعِيَّةً مِنْ بَعْضٍ، دُونَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ قَطْعِيَّةً ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، وَهَذَا أَبُونَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ شَاهِدٍ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ طَلَبَ دَرَجَةً مِنْ الْيَقِينِ أَعْلَى، وَهِيَ أَنْ يَرَى بِأُمِّ عَيْنِهِ، كَمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحيِي المَوتى قالَ أَوَلَم تُؤمِن قالَ بَلى وَلكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبي قالَ فَخُذ أَربَعَةً مِنَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجعَل عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزءًا ثُمَّ ادعُهُنَّ يَأتينَكَ سَعيًا وَاعلَم أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾
[البقرة: ٢٦٠]
لِذَلِكَ قَطْعِيَّةُ تَبَوُّثِ الْمُتَوَاتِرِ لَا تَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتَ.
لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ عِنْدَمَا اعْتَقَدَ النَّاسُ أَنَّ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ مَا هُوَ ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ، أَوْ ظَنِّيِّ الدِّلَالَةِ، تَحَوَّلُوا مِنْ قَوْمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، إِلَى قَوْمٍ يَتَخَبَّطُونَ فِي الظُّلُمَاتِ، يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ
فَحَلَّتْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، بَدَلَ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.