معنى الاجتهاد والأسس التي بني عليها ومناقشة أدلة مشروعيته

نَهْدِفُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْبَحْثِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِي التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأُسُسِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَمُنَاقَشَتِهَا، فِي ضَوْءِ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ، لِنُحَدِّدَ مَوْقِفًا مَرْضِيًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَبِسْمِ اللَّهِ نَبْدَأُ فِي عَرْضِ مَحَاوِرِ الْبَحْثِ:

مَعْنَى الِاجْتِهَادِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا

الِاجْتِهَادُ لُغَةً يَعْنِي بَذْلَ الْجَهْدِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ:

(جُهْدٌ) الْجِيمُ وَالْهَاءُ وَالدَّالُ أَصْلُهُ الْمَشَقَّةُ، ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا يُقَارِبُهُ. يُقَالُ جَهَدْتُ نَفْسِي وَأَجْهَدْتُ وَالْجُهْدُ الطَّاقَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]

[ابن فارس، مقاييس اللغة، ٤٨٦/١]

أَمَّا اصْطِلَاحًا، فَقَدْ تَطَوَّرَ مَفْهُومُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ:

قَالَ: أَفْتَجِدُ تَجْوِيزَ مَا قُلْتُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، مَعَ مَا وَصَفْتَ فَتَذْكُرَهُ؟

قُلْتُ: نَعَمْ، اسْتِدْلَالًاً بِقَوْلِ اللَّهِ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَةِ 150]

قَالَ: فَمَا شَطَرُهُ؟

قُلْتُ: تِلْقَاءَهُ قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ الْعَسِيبَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا فَشَطْرَهَا بَصَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْجُورُ

-[488]- فَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِمَّنْ نَأَتِ دَارِهُ عَنْهُ: عَلَى صَوَابٍ بِالِاجْتِهَادِ لِلتَّوَجُّهِ الَى الْبَيْتِ بِالدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الَّذِي كُلِّفَ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَصَابَ بِتَوَجُّهِهِ قَصْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمْ أَخْطَأَهُ، وَقَدْ يَرَى دَلَائِلَ يَعْرِفُهَا فَيَتَوَجَّهُ بِقَدْرِ مَا يَعْرِفُ [وَيَعْرِفُ غَيْرُهُ دَلَائِلَ غَيْرِهَا، فَيَتَوَجَّهُ بِقَدْرِ مَا يَعْرِفُ] وَإِنْ اخْتَلَفَ تَوَجُّهُهُمَا.

[الشافعي، الرسالة للشافعي، صفحة ٤٨٦]

إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَتَطْبِيقِهِ عُمُومًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْجُوَيْنِيِّ:

وَأما الِاجْتِهَاد فَهُوَ بذل الوسع فِي بُلُوغ الْغَرَض فالمجتهد إِن كَانَ كَامِل الْآلَة فِي الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر وَاحِد

[الجويني، أبو المعالي، الورقات، صفحة ٣١]

ثُمَّ أَخِيرًا اخْتَصَّ الِاجْتِهَادُ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّنِّيِّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ :

وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا يَقْصِدُهُ الْمُجْتَهِدُ (وَ) يَتَحَرَّاهُ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَائِمٌ يُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (عَلَيْهِ) دَلِيلٌ قَائِمٌ، لَا يُسَمَّى الِاسْتِدْلَال فِي طَلَبِهِ اجْتِهَادًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: إنَّ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لَا يُقَالُ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْمٌ قَدْ اخْتَصَّ فِي الْعُرْفِ وَفِي عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِمَا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ فِيهِ غَالِبَ ظَنِّهِ، وَمَبْلَغَ اجْتِهَادِهِ، دُونَ إصَابَةِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ، فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَهُوَ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ غَالِبُ ظَنِّهِ

[الجصاص، الفصول في الأصول، ١١/٤]

وقال الآمدي 

أَمَّا (الِاجْتِهَادُ) : فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي تَحْقِيقِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مُسْتَلْزِمٍ لِلْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فُلَانٌ فِي حَمْلِ حَجَرِ الْبِزَارَةِ، وَلَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ.

وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَمَخْصُوصٌ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ فِيهِ.

فَقَوْلُنَا: (اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ) كَالْجِنْسِ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ، وَمَا وَرَاءَهُ خَوَاصٌّ مُمَيِّزَةٌ لِلِاجْتِهَادِ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ.

وَقَوْلُنَا: (فِي طَلَبِ الظَّنِّ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ.

وَقَوْلُنَا: (بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ) لِيَخْرُجَ عَنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالْمُحَسَّاتِ وَغَيْرِهَا.

وَقَوْلُنَا: (بِحَيْثُ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ فِيهِ) لِيَخْرُجَ عَنْهُ اجْتِهَادُ الْمُقَصِّرِ فِي اجْتِهَادِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اجْتِهَادًا مُعْتَبَرًا.

[الآمدي، أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، ١٦٢/٤]

وقال ابْنُ أَبِي الْأَصْبَغِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي مَعَالِمِ الْأُصُولِ:

وَالِاجْتِهَادُ إِنَّمَا يَكُونُ. **  فِي كُلِّ مَا دَلِيلُهُ مَظْنُونٌ

إِذَنْ الِاجْتِهَادُ اصْطِلَاحًا تَطَوَّرَ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي احْدَى حَالَتَيْنِ:

أَنْ يَنْعَدِمَ النَّصُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَيَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ وِفْقَ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.

أَوْ يُوجَدَ نَصٌّ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ، أَوْ لِمُعَارَضَتِهِ لِنَصٍّ آخَرَ أَوْ لِكَوْنِ أَلْفَاظِهِ ظَنِّيَّةُ الدِّلَالَةِ.

الْأُسُسُ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا الِاجْتِهَادُ

عَرَفْنَا مِنْ الْمِحْوَرِ السَّابِقِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ اصْطِلَاحًا يَقُومُ عَلَى احْتِمَالَيْنِ، وَهُمَا انْعِدَامُ النَّصِّ مُطْلَقًا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتي هِيَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، أَوْ وُجُودِ نَصٍّ ظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ، مِمَّا يَطْرَحُ السُّؤَالَ:

هَلْ هُنَاكَ شَيْءٌ لَمْ يُبَيِّنْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ حُكْمَهُ أَوْضَحَ بَيَانٍ، نَظَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: 

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل: ٨٩]

وَكَيْفَ نَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ فَرَضِيَّةُ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُبَيِّنْ كُلَّ شَيْءٍ ؟

لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمِثْلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ ما كانَ حَديثًا يُفتَرى وَلكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ 

[يوسف: ١١١]

تَقطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى فَرْضِيَّةِ انْعِدَامِ النَّصِّ أَوْ عَدَمِ بَيَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ لَا مُسَوِّغَ لِلِاجْتِهَادِ أَصْلًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟

لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ لَا يُعْتَبَرُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، حَيْثُ يَجِدُونَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمِن بَينِهِم الزُّحَيْلِيُّ فِي قَوْلِهِ:

سَبَقَ الْبَيَانُ فِي التَّمْهِيدِ لِلِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْإِفْتَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ أَوْ وَاقِعَةٍ فِي الْكَوْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَحْدُودَةٌ، وَأَنَّ وَقَائِعَ الْكَوْنِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَحْصُورَةٌ، وَالْمَحْدُودُ لَا يُحِيطُ بِغَيْرِ الْمَحْدُودِ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَوَادِثِ وَالْمُسْتَجِدَّاتِ أَمْرًا مَحْتُومًا عَقْلًا، وَوَاجِبًا شَرْعًا، وَهَذَا مَا أَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ، فَهُوَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ فِيهِ، وَمَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ

[محمد مصطفى الزحيلي ,الوجيز في أصول الفقه الإسلامي ,2/279]

إِذَنْ نَحْنُ أَمَامَ نَصٍّ صَرِيحٍ فِي بَيَانِ كُلِّ شَيٍّ:

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ

وَتَفْصِيلِهِ:

مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ

وَبَيْنَ قَوْلٍ مُنَاقِضٍ لَهُ تَمَامًا، فَمَنْ نَتَّبِعُ؟

هَذَا السُّؤَالُ مُهِمٌّ جِدًّا لِأَنَّكَ إِذَا اقْتَنَعْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَيْسَ فِيهِما تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَنْ يَزِيدَكَ إِلَّا تَمَسُّكًا بِاعْتِقَادِكَ هَذَا، كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنْتُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَقَالٍ كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ.

أَمَّا إِذَا آمَنْتَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَأَيْقَنْتَ فِعْلًا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّكَ سَاعَتَهَا سَوْفَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانَ كُلِّ شَيٍّ، وَإِلَيْكَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ:

اعْلَمْ هَدَانِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ، أَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ تَنْزِلُ بِأَلْفَاظٍ جَامِعَةٍ يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي»

[البخاري، صحيح البخاري، ٣٦/٩]

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿وَالَّذينَ استَجابوا لِرَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمرُهُم شورى بَينَهُم وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ 

[الشورى: ٣٨]

فَفَوَّضَ الشَّأْنَ الْعَامَّ لِلشُّورَى، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشاوِرهُم فِي الأَمرِ فَإِذا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ﴾ 

[آل عمران: ١٥٩]

فَمَا كَانَ مِنْ الشَّأْنِ الْعَامِّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ فَحُكْمُ اللَّهِ أَنْ يَتِمَّ بِالشُّورَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَوْفَ يُقَدِّمُ رَأْيَهُ فِي الْقَضِيَّةِ الْمُتَشَاوَرِ عَلَيْهَا، وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِالشُّورَى هُوَ الْقَرَارُ الصَّائِبُ.

مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَشُورَةُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَوْلِيَةِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ، وَمَا اسْتَجَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْدَاثٍ تَعْنِي الشَّأْنَ الْعَامَّ.

لِلْأَسَفِ يَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ اخْتِيَارَ أَبِي بَكْرٍ اجْتِهَادًا، وَكُلُّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي الشَّأْنِ الْعَامِّ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ نَتِيجَةُ الْمَشُورَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ أَنْ يَتَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَمْرُ أَصْلًا مَتْرُوكٌ لِلْمَشُورَةِ.

كَذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا جُزْئِيَّاتٌ لَا حَصْرَ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهلِها وَإِذا حَكَمتُم بَينَ النّاسِ أَن تَحكُموا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَميعًا بَصيرًا﴾ 

[النساء: ٥٨]

فَاَللَّهُ أَمَرَ الْقَاضِي بِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» 

[مسلم، صحيح مسلم، ١٨٣٠/٤]

وَقَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، إِنَّمَا يَقْضِي بِمَا يَتَبَيَّنُ لَهُ مِنْ أَدِلَّةٍ، وَقَدْ يُصِيبُ، وَقَدْ يُخْطِئُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» 

[البخاري، صحيح البخاري، ٦٩/٩]

إِنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ يَدْخُلُ تَحْتَهَا مَا لَا حَصْرَ لَهُ مِنْ الصُّوَرِ الْمُمْكِنَةِ، وَأَحْكَامُ الْقَاضِي فِيهَا لَيْسَتْ تَشْرِيعًا مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هِيَ اجْتِهَادُ الْقَاضِي فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَقَدْ يَنْجَحُ فِيهِ، وَقَدْ يُخْفِقُ، وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا الْمُتَخَاصِمينِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا.

إِذَا فَهِمْنَا مَا سَبَقَ، سَوْفَ نَفْهَمُ لِمَ اجْتَهَدَ الصَّحَابَةُ فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ فِي الْقَضَايَا الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قَضَاءَهُ هُوَ شَرْعُ اللَّهِ الَّذِي يَلْزَمُ الْأُمًَةَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَاوَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَحقيقِ الْعَدْلِ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أَمَامَهُ، وَحُكْمُهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا الْمُتَخَاصِمينِ.

الْكَارِثَةُ، وَالطَّامَةُ أَنْ يَخْتَلِطَ الِاجْتِهَادُ فِي تَطْبِيقِ الْعَدْلِ، بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُلْزِمَةِ لِلْأُمَّةِ، كَمَا يَتَصَوَّرُ الْفُقَهَاءُ، فَيَجْعَلُونَ الِاجْتِهَادَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

كَذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَنْدَرِجُ تَحْتَها صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿وَقاتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلونَكُم وَلا تَعتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعتَدينَ

 [البقرة: ١٩٠]

فَأَيُّ اعْتِدَاءٍ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْفَرْدِ، أَوْ عَلَى الْغَيْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ اعْتِدَاءً عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ الْأَعْرَاضِ، أَوْ الْأَنْفُسِ، هُوَ حَرَامٌ شَرْعًا بِهَذِهِ الْآيَةِ الصَّرِيحَةِ، وَبِالتَّالِي إِذَا اسْتَجِدَّتْ وَسِيلَةٌ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ، كَالْمُخَدِّرَاتِ، أَوْ السَّجَائِرِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ مُبَاشَرَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَثِيلَاتِهَا.

لِذَلِكَ فِعْلًا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةُ فِيهِمَا تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، بِمَا فِي الْكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى، وَهَذَا مَا يَجْعَلُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُهُ.

إِنَّمَا سَبَقَ بَدِيهِيٌّ جِدًّا، وَلِذَلِكَ يَبْرُزُ السُّؤَالُ: لِمَاذَا يَعْتَقِدُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُبَيِّنْ كُلَّ شَيْءٍ، رَغْمَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ؟

هَذَا مَا سَوْفَ نُنَاقِشُهُ فِي الْمِحْوَرِ التَّالِي:

لِمَاذَا يَعْتَقِدُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُبَيِّنْ كُلَّ شَيْءٍ؟

سَبَقَ وَذَكَرْتُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّ الْقُرْآنَ سَيَزِيدُ مَنْ يَقْرَأُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ، فَهُوَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَإِذا ما أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُم زادَتهُ هذِهِ إيمانًا فَأَمَّا الَّذينَ آمَنوا فَزادَتهُم إيمانًا وَهُم يَستَبشِرونَ﴾ 

[التوبة: ١٢٤]

وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ يَزِيدُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَرَضًا:

﴿وَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتهُم رِجسًا إِلى رِجسِهِم وَماتوا وَهُم كافِرونَ﴾ 

[التوبة: ١٢٥]

فَإِذَا إِعْتَقَدَ النَّاسُ أَنَّ الْوَحْيَ قُرْآنًا وَسُنَّةً لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَقْرَأُونَ الْوَحْيَ سَوْفَ يَزِيدُهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ هَذَا، لِذَلِكَ عَلَيْنَا الْبَحْثُ عَنْ أَوَّلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ بَيَانِ النُّصُوصِ لِكُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مُقَلِّدٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ.

عِنْدَ الْبَحْثِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّنَا نَجِدُ مَا يَلِي:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ نَازِلَةٌ إِلَّا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا.

قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إِبْرَاهِيمُ 1)

وَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النَّحْلُ 44)

وَقَالَ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النَّحْلُ 89)

وَقَالَ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًاً مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشُّورَى 52)

[الشافعي ,الرسالة للشافعي ، 19]

ثُمَّ يَشْرَعُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ السَّبِيلِ فِي قَوْلِهِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَجِمَاعُ مَا أَبَانَ اللَّهُ لِخَلْقِهِ فِي كِتَابِهِ، مِمَّا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ، لِمَا مَضَى مِنْ حُكْمِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مِنْ وُجُوهٍ.

فَمِنْهَا مَا أَبَانَهُ لِخَلْقِهِ نَصًّاً. مِثْلُ جَمُلِ فَرَائِضِهِ، فِي أَنَّ عَلَيْهِمْ صَلَاةً وَزَكَاةً وَحَجًّاً وَصَوْمًاً وَأَنَّهُ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ، وَنَصِّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ فَرْضُ الْوُضُوءِ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَ نَصًّاً. -[22]-

وَمِنْهُ: مَا أَحْكَمَ فَرْضَهُ بِكِتَابِهِ، وَبَيَّنَ كَيْفَ هُوَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ؟ مِثْلُ عَدَدِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَوَقْتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِهِ الَّتِي أُنْزِلَ مِنْ كِتَابِهِ.

وَمِنْهُ: مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ نَصُّ حُكْمٍ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ طَاعَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْتِهَاءُ إِلَى حُكْمِهِ، فَمَنْ قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَبِفَرْضِ اللَّهِ قَبِلَ.

[الشافعي ,الرسالة للشافعي , 21]

ثُمَّ قَالَ:

وَمِنْهُ: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، وَابْتَلَى طَاعَتَهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ، كَمَا ابْتَلَى طَاعَتَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ.

فَإِنَّهُ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (مُحَمَّدٍ 31) -[23]-

وَقَالَ: (وَلْيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) (آلِ عِمْرَانَ 154)

وَقَالَ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟) (الْأَعْرَافَ 129)

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَوَجَّهُهُمْ بِالْقِبْلَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهِكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (الْبَقَرَةِ 144)

وَقَالَ: (وَمَنْ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهِكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (الْبَقَرَةِ 150) .

فَدَلَّهَّمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذَا غَابُوا عَنْ عَيْنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى صَوَابِ الِاجْتِهَادِ، مِمَّا فُرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، بِالْعُقُولِ الَّتِي رَكَّبَ فِيهِمْ، الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَضْدَادِهَا، وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي نَصَبَ لَهُمْ دُونَ عَيْنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ شَطْرَهُ. -[24]-

فَقَالَ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبِرِّ وَالْبَحْرِ) (الْأَنْعَامُ 97) ، وَقَالَ: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النَّحْلُ 16)

فَكَانَتِ الْعَلَامَاتُ جِبَالًاً وَلَيْلًاً وَنَهَارًاً، فِيهَا أَرْوَاحٌ (2) مَعْرُوفَةُ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَهَابِّ. وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ، وَنُجُومٌ مَعْرُوفَةُ الْمَطَالِعِ وَالْمَغَارِبِ، وَالْمَوَاضِعِ مِنْ الْفُلَكِ.

فَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الِاجْتِهَادُ بِالتَّوَجُّهِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مِمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِمَّا وُصَفْتُ، فَكَانُوا مَا كَانُوا مُجْتَهِدِينَ غَيْرَ مُزَايِلِينَ أَمْرَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إِذَا غَابَ عَنْهُمْ عَيْنُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ يُصَلُّوا حَيْثُ شَاؤُوا -[25]-

[الشافعي ,الرسالة للشافعي , 21]

إِذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ السَّابِقَ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ خَلَطَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِ الْحُكْمِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: 

﴿وَمِن حَيثُ خَرَجتَ فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرامِ وَحَيثُ ما كُنتُم فَوَلّوا وُجوهَكُم شَطرَهُ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَيكُم حُجَّةٌ إِلَّا الَّذينَ ظَلَموا مِنهُم فَلا تَخشَوهُم وَاخشَوني وَلِأُتِمَّ نِعمَتي عَلَيكُم وَلَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ 

[البقرة: ١٥٠]

صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَوَجَّهَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَنَحْنُ أَمَامَ هَذَا الْأَمْرِ لَيْسَ لَنَا سِوَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، كُلٌّ مِنَّا سَوْفَ يُطِيعُهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ

فَمَنْ كَانَ يَرَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّهُ سَوْفَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ يَقِينًا، وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ يُصِيبُ، وَقَدْ يُخْطِئُ، وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ.

لِلْأَسَفِ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الِاجْتِهَادَ فِي تَطْبِيقِ الْحُكْمِ اجْتِهَادًا فِي بَيَانِ الْحُكْمِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْبِدَايَةُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْنَا الَّتِي سَارَ عَلَيْهَا النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ، فَالنَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ تَرَى أَنَّ بَيَانَ الْوَحْيِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا تَامًّا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ اجْتِهَادًا حَتَّى يَصِلَ الْمَرْءُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى حُكْمٍ ظَنِّيٍّ.

مَعَ كَثْرَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَتَمَسُّكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ ظَهْرَ مَفْهُومٌ جَدِيدٌ يَزِيدُ الْفُرْقَةَ، وَالِاخْتِلَافَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ أَنَّ بَعْضَ نُصُوصِ الْوَحْيِ ظَنِّيَّةُ الدِّلَالَةِ، وَظَنِّيَّةُ الثُّبُوتِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْإِسْتِدْلَالَ بِهَا هُوَ اسْتِدْلَالٌ مُحْتَمَلٌ، وَلَيْسَ قَطْعِيٌّ، وَبِالتَّالِي فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَرْءِ غَيْرُ الِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ.

بِالطَّبْعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّنَا نَجِدُ قَوْلَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ:

﴿ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ﴾ 

[البقرة: ٢]

وَالَّذِي يَنْفِي بِشَكْلٍ قَاطِعٍ وُجُودَ أَيِّ رَيْبٍ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ سَوَاءً فِي دَلَالَتِهَا، أَوْ ثُبُوتِهَا، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ سَوْفَ نُنَاقِشُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَمُنَاقَشَتُهَا

لَمَّا اعْتَقَدَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُمْ حِينَ قَرَأُوا الْقُرْآنَ زَادَهُمْ الْقُرْآنُ تَمَسُّكًا بِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةً مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تُبِيحُ لَهُمُ الِاجْتِهَادَ فِي الْوُصُولِ إِلَى أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ ظَنِّيَّةٌ، وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّهَا :

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمُنَاقَشَتُهَا

يَسْتَدِلُّ الْقَائِلُونَ بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :

﴿هُوَ الَّذي أَخرَجَ الَّذينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتابِ مِن دِيارِهِم لِأَوَّلِ الحَشرِ ما ظَنَنتُم أَن يَخرُجوا وَظَنّوا أَنَّهُم مانِعَتُهُم حُصونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبوا وَقَذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ يُخرِبونَ بُيوتَهُم بِأَيديهِم وَأَيدِي المُؤمِنينَ فَاعتَبِروا يا أُولِي الأَبصارِ﴾ 

[الحشر: ٢]

وَالْآيَةُ تَتَحَدَّثُ عَنْ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَيْفَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْخَاتِمَةِ السَّيِّئَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْعِبْرَةَ، حَتَّى لَا نَصِيرَ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ، وَالْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا إِذْنٌ بِالتَّشْرِيعِ مَعَ اللَّهِ بِالْقِيَاسِ أَصْلًا، وَلَا الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ أَصْلًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الدِّينَ كُلَّهُ.

كَذَلِكَ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿وَإِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذاعوا بِهِ وَلَو رَدّوهُ إِلَى الرَّسولِ وَإِلى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَستَنبِطونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطانَ إِلّا قَليلًا﴾ 

[النساء: ٨٣]

وَالْآيَةُ تَتَحَدَّثُ عَنْ أَمْرِ الْأَمْنِ، أَوْ الْخَوْفِ، وَلَا تَتَحَدَّثُ عَنْ التَّشْرِيعِ مُطْلَقًا، هَذَا أَوَّلًا، ثَانِيًا الْآيَةَ تَتَحَدَّثُ عَنْ عِلْمٍ وَلَيْسَ عَنْ ظَنٍّ، وَالِاجْتِهَادُ ظَنٌّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

كَذَلِكَ يَسْتَدِلُّ الْقَائِلُونَ بِالِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى

﴿هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وَابتِغاءَ تَأويلِهِ وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرّاسِخونَ فِي العِلمِ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾ 

[آل عمران: ٧]

وَالْآيَةُ بِفَرْضِ أَنَّ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مَعْطُوفُونَ عَلَى اللَّهِ تَتَحَدَّثُ عَنْ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَلَيْسَ ظَنُّهُمْ، وَبِالتَّالِي فَهِيَ أَيْضًا لَا تَتَحَدَّثُ عَنْ الِاجْتِهَادِ.

مما استدل بِهِ القائلون بالاجتهاد ما قاله الزحيلي: 

قال اللَّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، فهذه الآية تتضمن إقرار الاجتهاد بطريق القياس، والقياس نوع من الاجتهاد، ومثل ذلك الآيات الكريمة التي سبق بيانها في مشروعية القياس، فإنّها تدل على جواز الاجتهاد كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، وما ورد بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4، النحل: 12]، وغير ذلك مما ورد فيه قوله تعالى: {يَعْقِلُونَ}.

[محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ٢٧٧/٢]

آيَةُ النِّسَاءِ تَتَحَدَّثُ عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا سَبَقَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَيْسَ تَشْرِيعًا لِلْأُمَّةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعْصُومًا فِيهِ، لِذَلِكَ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ لَا مَحَلَّ لَهُ.

كَذَلِكَ آيَاتُ الرَّعْدِ وَمَثِيلَاتُهَا الَّتِي تُشِيرُ أَنَّ فِي خَلْقِ اللَّهِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَيَتَفَكَّرُونَ، كُلُّهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ وُجُوبُ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إِذْنٌ بِالتَّفْكِيرِ فِي تَشْرِيعِ أَحْكَامٍ يُتَعَبَّدُ اللَّهُ بِهَا، فَذَلِكَ مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ حِينَ قَالَ:

﴿ثُمَّ جَعَلناكَ عَلى شَريعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلا تَتَّبِع أَهواءَ الَّذينَ لا يَعلَمونَ۝إِنَّهُم لَن يُغنوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَإِنَّ الظّالِمينَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقينَ۝هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يوقِنونَ﴾ 

[الجاثية: ١٨-٢٠]

ثم قال الزحيلي: 

قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]، فالأمر بطاعة اللَّه والرسول هو باتباع نصوص الكتاب والسنة، والمراد بالردّ إلى اللَّه والرسول عند التنازع فيما لم يرد فيه نص هو النظر في الكتاب والسنة لمعرفة علل الأحكام، ومقاصد الشريعة، وقواعدها العامة للاستنباط والاجتهاد والاستدلال على الأحكام الشرعية، وهذا هو الاجتهاد الشرعي الذي أوجبه اللَّه تعالى لبيان الحكم لما يحدث بين الناس من قضايا لم يرد فيها نص، فيعملون بشرع اللَّه، ويتجنبون الهوى والباطل.

[محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ٢٧٧/٢]

هَذَا هُوَ أَكْبَرُ تَحْرِيفٍ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَالْآيَةُ لَوْ قَرَأْنَاهَا أَلْفَ مَرَّةٍ لَنْ نَرَى فِيهَا أَنَّ الرَّدَّ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْعِدَامِ النَّصِّ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ سَاعَتَهَا لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّهُ سَوْفَ يَكُونُ رَدٌّ إِلَى حَيْثُ لَا دَلِيلٌ فَاصِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ.

سُبْحَانَ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَوْضَحِ الْآيَاتِ فِي بُطْلَانِ الِاجْتِهَادِ، حَيْثُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلِ الْحُجَّةَ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي شَيءٍ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَجَعَلَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمَا شَرْطاً فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى اجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ وَلَا إجْمَاعِ أُمَّةٍ، وَلَكِنْ سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي قَالَ :

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ وَلا يَزيدُ الظّالِمينَ إِلّا خَسارًا﴾ 

[الإسراء: ٨٢]

فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي تَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ تَمَسُّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَسْتَخْدِمُهَا هَذَا الشَّخْصُ فِي الطَّعْنِ فِي اسْتِيعَابِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.

ثُمَّ قَالَ الزُّحَيْلِيُّ:

قال اللَّه تعالى مخاطبًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، فكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه فيما لم يوح إليه منه بشيء، ثم يختار من آرائهم ما كان عنده أقرب للصواب في أمر الحروب، ومكائد العدو، وفي أشياء كثيرة، مما يرد في الشورى والمشاورة مما لا وحي فيه …

[محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ٢٧٧/٢]

وَهَذَا كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنْتُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالتَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ الشُّورَى الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ قَالَ:

وردت آيات كثيرة يتوقف العمل بها على الاجتهاد فيها لتطبيقها، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236]، وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، والمعروف يحتاج إلى اجتهاد وتقدير، وقال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولا يعرف مقدار المتعة إلا بالاجتهاد وغالب الظن؛ لاختلاف أحوال الناس في اليسار والإعسار، وقال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ومن غاب عن الكعبة فلا تصح صلاته بالتوجه إليها إلا عن طريق الاجتهاد وغالب الظن، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وإصلاح مال اليتيم إنما يكون بتحري الاحتياط في تمييزه وحفظه وإحرازه، ويكون ذلك بغالب الظن، ومعظم آيات الأحكام تحتاج إلى النظر والاجتهاد وإعمال الفكر والذهن لمعرفة مرادها بغالب الظن، وهذا هو الاجتهاد وما يدخل فيه.

[محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ٢٧٨/٢]

وَهَذَا كُلُّهُ اجْتِهَادٌ فِي تَطْبِيقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا فِي تَحْصِيلِهِ، لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَسَوْفَ نَعُودُ لَهُ لَاحِقًا فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ حُكْمِ الِاجْتِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ السُّنَّةِ

كُلُّ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَسُوقُهَا الْقَائِلُونَ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ السُّنَّةِ تَتَحَدَّثُ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْحُكْمِ أَوْ الْقَضَاءِ، مِنْ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ الزُّحَيْلِيُّ :

قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا حكمَ الحاكمُ فاجْتَهَدَ ثم أصابَ فلهُ أجْران، وإذا حَكَم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجرٌ"، فالحديث صريح في تجويز الاجتهاد والدعوة إليه والترغيب فيه، قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالمٍ أهل للحكم"

2 - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "كيف تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لكَ قضاءٌ؟ "، قال: أقضي بكتاب اللَّه، قال: "فإنْ لم يكُنْ في كتابِ اللَّه؟ " قال: فبسنةِ رسولِ اللَّه، قال: "فإنْ لم يكنْ في سنّةِ رسولِ اللَّه؟ "، قال: أجتهدُ في رأي، ولا آلو، أي: لا أقصِّر، فضرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على صدر معاذ، وقال: "الحمدُ للَّه الذي وفقَ رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي اللَّهَ ورسُولَه"، والأحاديث في ذلك كثيرة

[محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، ٢٧٨/٢]

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي تَحْصِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، إِنَّمَا هِيَ فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ وَهَذَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.

حَدِيثُ مُعَاذٍ السَّابِقِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بِضَعْفِهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ جِدًّا وَمَعْلُومٌ ضَعْفُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْرُؤُ هَذَا الْكَاتِبُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى نِسْبَتِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَطْعِ، فَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحِ: 

وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ

[البخاري، صحيح البخاري، ٣٣/١]

كَيْفَ يَجْرُؤُونَ عَلَى قَوْلِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟

حُكْمُ الِاجْتِهَادِ فِي التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ

إِنَّ الْإِسْلَامَ قَرَارٌ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِيُطَاعَ، وَمَا نَهَى عَنْهُ لِيُجْتَنَبَ، وَلَمَّا كَانَتْ قُدْرَةُ النَّاسِ تَتَفَاوَتُ فِي التَّعَلُّمِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِيعَابِ، وَمِنْ حَيْثُ تَوَفُّرِ الْمُدَرِّسِينَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَجْتَهِدُ فِي مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ.

وَهُنَا يَجِبُ أَنْ نَنْتَبِهَ لِأَمْرٍ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ، أَيْ أَنَّهُ عَمَلِيًّا لَا يَقْبَلُ أَنْ يَأْتَمِرَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حِينَ يَسْأَلُ، إِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَنْ رَأْيِ الْمُفْتِي الشَّخْصِيِّ، وَذَلِكَ لِيَسْلَمَ مِنْ رُؤُوسِ الْجَهْلِ الَّذِينَ حَذَّرَنَا مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:

«إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

[البخاري، صحيح البخاري، ٣١/١]

إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْلِمِ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي تَأْدِيَةِ مَا أُمِرَ بِهِ، طَاعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ

وَقَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارٌ وَعُمَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِمَا حِينَ لَمْ يَجِدَا الْمَاءَ، وَجَهِلَا حُكْمَ التَّيَمُّمِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِنْ مُفْتٍ يُفْتِيهِمَا، فَلَمْ يَأمُرهُما بِقَضاءِ تِلكَ الصَّلاةِ، وَاكتَفى بِتَعليمِهِما التَّيَمُمَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ المَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ

[البخاري، صحيح البخاري، ٧٥/١]

لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ أَمْرِ رَبِّهِ وَذلِكَ بِتَعَلُّمِهِ وَالسُّؤَالِ عَنهُ، وَتَطْبِيقِهِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْتِي فَإِنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَهُمَا:

أَنْ يَعْلَمَ الْفَتْوَى مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ كِتْمَانُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿إِنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللّاعِنونَ۝إِلَّا الَّذينَ تابوا وَأَصلَحوا وَبَيَّنوا فَأُولئِكَ أَتوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾ 

[البقرة: ١٥٩-١٦٠]

أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، لِأَنَّهُ فِعْلًا لَا يَدْرِي، وَإِلَّا فَإِنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي رُؤُوسِ الْجَهْلِ الَّذِينَ حَذَّرَنَا مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:

إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا

وَإِلَّا فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ نَفْسِهِ نِدًّا لِلَّهِ، يُشَرِّعُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهِ، يَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ قَوْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ:

﴿أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ۝تَرَى الظّالِمينَ مُشفِقينَ مِمّا كَسَبوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِم وَالَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوضاتِ الجَنّاتِ لَهُم ما يَشاءونَ عِندَ رَبِّهِم ذلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبيرُ﴾ 

[الشورى: ٢١-٢٢]

ويَنْطَبِقُ عَلَيهِ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ:

﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ۝مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ 

[النحل: ١١٦-١١٧]

وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.

نَتَائِجُ اعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ

إِنَّ اعْتِبَارَ الِاجْتِهَادِ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ هُوَ كَسْرٌ لِبَيْضَةِ الدِّينِ، وَتَحْوِيلُهُ مِنْ وَحْيٍ خَالِصٍ لَيْسَ لَنَا تُجَاهُهُ غَيْرُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ:

﴿وَاذكُروا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم وَميثاقَهُ الَّذي واثَقَكُم بِهِ إِذ قُلتُم سَمِعنا وَأَطَعنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾ 

[المائدة: ٧]

إِلَى آرَاءٍ بَشَرِيَّةٍ مُتَضَارِبَةٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ اجْتِهَادَاتُهُ الَّتِي تَتَحَوَّلُ مَعَ الزَّمَنِ إِلَى دِينٍ مُسْتَقِلٍّ يُسَمَّى مَذْهَبَهُ، يُحِلُّ وَيَحَرِّمُ بِحَسَبِ مَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهَذَا دُونَ أَدْنَى خَجَلٍ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْقَرَضَاوِيِّ فِي هَذَا الْمَقْطَعِ:

وَهَكَذَا نَتَحَوَّلُ مِنْ أُمَّةٍ تَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، مَكَّنَ اللَّهُ لَهَا فِي الْأَرْضِ وَنَصَرَهَا، إِلَى أُمَّةٍ اتَّخَذَتْ أَحْبَارَهَا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، تَمَامًا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلُ:

﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ﴾ 

[التوبة: ٣١]

فَتَحَقَّقَتْ بِذَلِكَ نُبُوءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ»

[البخاري، صحيح البخاري، ١٦٩/٤] 

لِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ كَمَا ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَسُنَنُ اللَّهِ لَا تُحَابِي أَحَدًا.

تحميل البحث بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-