تعريف العبادة وشروط صحتها وكيف نقوم بها

إِنَّ الْهَدَفَ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ هُوَ مَعْرِفَةُ مَاهِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَكَيْفِيَّةُ الْقِيَامِ بِهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، حَتَّى نَكُونَ قَدْ أَدَيْنَا الْغَرَضَ الَّذِي خُلِقْنَا مِنْ أَجْلِهِ

﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ 

[الذاريات: ٥٦]

وَلِكَيْ نَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ 

﴿قُلِ اللَّهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَهُ ديني۝فَاعبُدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ قُل إِنَّ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم وَأَهليهِم يَومَ القِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ۝لَهُم مِن فَوقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِن تَحتِهِم ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقونِ﴾ 

[الزمر: ١٤-١٦]

فَمِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَعْرِفَةً دَقِيقَةً، قَدْ نَصْرِفُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَنَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، فَنَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.

لِكَيْ نُحَقِّقَ أَكْبَرَ اسْتِفَادَةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ يَجِبُ أَنْ نَتَجَرَّدَ أَوَّلًا مِمَّا عِنْدَنَا مِنْ تَصَوُّرَاتٍ عَنْ الْعِبَادَةِ، حَتَّى نَكُونَ كَالصَّفْحَةِ الْبَيْضَاءِ، لِكَيْ نَتَقَبَّلَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْوَحْيِ دُونَ تَشْوِيشٍ، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ مُقْتَنِعٍ بِضَرُورَةِ التَّجَرُّدِ، مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَقَالِ كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَقَدْ نَاقَشْتُ هَذِهِ النُّقْطَةَ بِإِسْهَابٍ.

أَمَّا إِذَا كُنْتَ مُسْتَعِدًّا لِلتَّجَرُّدِ فَأَحْضِرُ وَرَقَةً وَقَلَماً، فَقَدْ تَحْتَاجُهَا، وَبِسْمِ اللَّهِ نَبْدَأُ بِالتَّعَرُّفِ عَلَى مَحَاوِرِ هَذَا الْبَحْثِ وَالَّتِي هِيَ : 

تَصَوُّرُنَا عَنِ الْعِبَادَةِ

قَبْلَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْمِحْوَرِ، أُرِيدُكَ أَنْ تُجِيبَ عَلَى السُّؤَالِ التَّالِي 

مَا هُوَ تَعْرِيفُكَ لِلْعِبَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ ؟

فَكِّرْ فِي الْجَوَابِ، وَاكْتُبْهُ فِي وَرَقَةٍ عِنْدَكَ، لِنَرَى الْفَارِقَ بَيْنَ مَعْرِفَتِكَ لِلْعِبَادَةِ قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ وَبَعْدَهُ .

لَقَدْ طَرَحْتُ هَذَا السُّؤَالَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَلِلْأَسَفِ كَانَتْ الْغَالِبِيَّةُ السَّاحِقَةُ مِنْ الْإِجَابَاتِ ضَبَابِيَّةً، مَعَ تَفَاوُتٍ فِي دَرَجَاتِ الضَّبَابِيَّةِ، فَأَغْلَبُ النَّاسِ يَقُولُ

الْعِبَادَةُ هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ

طَيبٌ، وَمَا هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ ؟

فِي الْغَالِبِ لَا جَوَابٌ وَاضِحٌ.

وَالْبَعْضُ الْآخَرُ يَقُولُ :

الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

طَيبٌ، هَذِهِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَلَكِنْ مَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ بِشَكْلٍ مُجَرَّدٍ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْبُودِ؟

وَلِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ لَا جَوَابٌ وَاضِحٌ أَيْضًا.

وَأَحْسَنُ النَّاسِ مَنْ يُجِيبُ بِتَعْدَادِ بَعْضِ الشَّعَائِرِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذِهِ صُوَرٌ مِنْ صُوَرِ الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ مَا هُوَ جَوْهَرُ الْعِبَادَةِ، فِي الْغَالِبِ لَا يُجِيبُ أَيْضًا لِلْأَسَفِ.

هَذَا الِاسْتِطْلَاعُ أَظْهَرَ أَنَّ الْغَالِبِيَّةَ السَّاحِقَةَ مِنَّا لِلْأَسَفِ لَا تَعْرِفُ عَلَى وَجْهِ الدِّقَّةِ مَاهِيَّةَ الْعِبَادَةِ، بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا تَعْرِفُ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ أَجْلِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِمَّا يَكْشِفُ عَنْ مَرَضٍ خَطِيرٍ جِدًّا، وَهُوَ عَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِالدِّينِ أَصْلًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.

عِنْدَ تَحْلِيلِ إِجَابَاتِ النَّاسِ وَسُلُوكِهَا لِمَعْرِفَةِ مَا تُطْلِقُ عَلَيْهِ كَلِمَةَ “عِبَادَةَ”، وَجَدْتُ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّعَائِرِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَحَسْبُ.

بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ الْعِبَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْجَوْهَرُ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا مَحْصُورَةٌ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنْ الشَّعَائِرِ فَقَطْ .

يَظْهَرُ هَذَا التَّصَوُّرُ عَنِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ قَوْلِكَ لَهُمْ :

فُلَانٌ يَعْبُدُ فُلَانًا

فَإِنَّ رَدَّهُمْ يَكُونُ كَيْفَ يَعْبُدُهُ ؟

هَلْ يُصَلِّي لَهُ، أَوْ يَصُومُ لَهُ ؟!

فَهُمْ لَا يَتَصَوَّرُونَ الْعِبَادَةَ خَارِجَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ عَلْمَانِيَّةٌ لَا شُعُورِيًّا، فَهُمْ يَحْصُرُونَ الْعِبَادَةَ فِي الشَّعَائِرِ، وَهَذَا بِالضَّبْطِ هُوَ فَصْلُ الدِّينِ عَنْ الْحَيَاةِ الْوَاقِعِيَّةِ كُلِّهَا، بِمَا فِيهَا الْحَيَاةُ السِّيَاسِيَّةُ، فَهَلْ أَنْتَ أَيْضًا عَلْمَانِيٌّ دُونَ أَنْ تَشْعُرَ؟

بِمَعْنَى هَلْ تَحْصُرُ الْعِبَادَةَ فِي الشَّعَائِرِ؟

فَكِّرْ فِي الْجَوَابِ، فَمَعْرِفَتُكَ بِذَاتِكَ أَوَّلُ خُطْوَةٍ نَحْوَ تَحْقِيقِ الْهَدَفِ، فَالتَّغْيِيرُ يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ الدَّاخِلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ﴾ 

[الرعد: ١١]

لِذَلِكَ مِنْ الْمُهِمِّ جِدًّا الْإِجَابَةُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ.

إِنَّ جَهْلَنَا بِجَوْهَرِ الْعِبَادَةِ، وَرَبْطَهَا بِمَجْمُوعَةٍ مِنْ الشَّعَائِرِ وَحَسِبٌ، سَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْجَهْلُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَعِنْدَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ، تَضِيعُ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ، وَيَبْقَى رَسْمُهَا فَقَطْ، وَهَكَذَا نُصْبِحُ أُمَّةً تَائِهَةً، فَقَدَتْ الْجَوْهَرَ، وَبَقِيَ لَهَا الْقُشُورُ.

لِذَلِكَ أَوَّلُ خُطْوَةٍ فِي مَعْرِفَةِ جَوْهَرِ الْعِبَادَةِ هِيَ مَعْرِفَةُ مَا تَعْنِي كَلِمَةُ الْعِبَادَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهَذَا مَا سَنَتَنَاوَلُهُ فِي الْمِحْوَرِ التَّالِي

مَعْنَى الْعِبَادَةِ لُغَةً

تعريف العبادة نظريا وعمليا

حِينَمَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ، أَمَرَ الْعَرَبَ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَفَهِمُوا مُرَادَهُ بِحَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعِبَادَةِ فِي لِسَانِهِمْ، لِذَلِكَ لِكَيْ نَفْهَمَ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَاذَا يَعْنِي بِكَلِمَةِ الْعِبَادَةِ فِي لِسَانِهِ، وَهَذَا مَا سَوْفَ يُخْبِرُنَا بِهِ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِهِ الْفَرِيدِ، مَقَايِيسُ اللُّغَةِ فَيَقُولُ:

(عَبَدَ) الْعَيْنُ وَالْبَاءُ وَالدَّالُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، كَأَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ، وَ [الْأَوَّلُ] مِنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ يَدُلُّ عَلَى لِينٍ وَذُلٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى شِدَّةٍ وَغِلَظٍ. فَالْأَوَّلُ الْعَبْدُ، وَهُوَ الْمَمْلُوكُ، وَالْجَمَاعَةُ الْعَبِيدُ، وَثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَهُمُ الْعِبَادُ. قَالَ الْخَلِيلُ: إِلَّا أَنَّ الْعَامَّةَ اجْتَمَعُوا عَلَى تَفْرِقَةِ مَا بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَالْعَبِيدِ الْمَمْلُوكِينَ

[ابن فارس ,مقاييس اللغة ,4/205]

إِلَى أَنْ يَقُولَ

وَمِنَ الْبَابِ الْبَعِيرُ الْمُعَبَّدُ، أَيِ الْمَهْنُوءُ بِالْقَطْرَانِ. وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذِلُّهُ وَيَخْفِضُ مِنْهُ. قَالَ طَرَفَةُ: إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي الْعَشِيرَةُ كُلُّهَا … وَأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ الْبَعِيرِ الْمُعَبَّدِ وَالْمُعَبَّدُ: الذَّلُولُ، يُوصَفُ بِهِ الْبَعِيرُ أَيْضًا. وَمِنَ الْبَابِ: الطَّرِيقُ الْمُعَبَّدُ، وَهُوَ الْمَسْلُوكُ الْمُذَلَّلُ.

[ابن فارس ,مقاييس اللغة ,4/206]

إِذَنْ الْعِبَادَةُ تَعْنِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْخُضُوعَ وَالتَّذَلُّلَ، فَمَنْ تَخْضَعُ لَهُ وَتَتَذَلَّلُ لَهُ، أَنْتَ تَعْبُدُهُ. 

هَذَا الِاسْتِنْتَاجُ مُهِمٌّ جِدًّا، لِذَلِكَ يُهِمُّنِي جِدًّا رَأْيُكَ فِيهِ، هَلْ تُوَافِقُ عَلَيْهِ ؟

أَمْ هَلْ تَخْتَلِفُ مَعَهُ، وَلِمَاذَا ؟

إِذَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ مَعَهُ، أَجِبْنِي فِي تَعْلِيقٍ، فَمِنَ الضَّرُورِيِّ جِدًّا مُنَاقَشَةُ هَذِهِ النُّقْطَةِ قَبْلَ تَجَاوُزِهَا، لِأَنَّهَا هِيَ الْأَسَاسُ، أَمَّا إِذَا كُنْتَ مُوَافِقٌ عَلَيْهَا فَاكْتُبْهَا عِنْدَكَ فِي الْوَرَقَةِ، وَدَعْنَا نَسْتَمِرُّ مَعَ الْبَحْثِ.

مَعْنَى الْعِبَادَةِ شَرْعًا

قَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِكَ سُؤَالٌ وَهُوَ لِمَاذَا نَحْتَاجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَقَدْ عَرَفْنَا الْمَعْنَى فِي اللِّسَانِ ؟

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَحْيَانًا يَكُونُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ مِنْ الْمَعْنَى الْعَامِّ، مَثَلًا الصَّوْمُ يَعْنِي لُغَةً الِامْسَاكَ، وَلَكِنَّهُ يَعْنِي شَرْعًا الِامْسَاكَ عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَحَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

كَذَلِكَ التَّيَمُّمُ يُقْصَدُ بِهِ لُغَةً التَّوَجُّهَ، وَشَرْعًا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْقِيَامَ بِحَرَكَاتٍ مَعْلُومَةٍ، وَهَكَذَا، لِذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيِّ تَعَلُّمُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِمَا قَدْ يُضِيفُ مِنْ تَفْصِيلٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

بِالنِّسْبَةِ لِكَلِمَةِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا شَرْعًا تَعْنِي أَيْضًا الْخُضُوعَ وَالتَّذَلُّلَ، وَمَا نَجَمَ عَنْ ذَلِكَ، مِثْلَ الطَّاعَةِ، وَالْخَوْفِ، وَغَيْرِهَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :

﴿أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يا بَني آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ﴾

[يس: ٦٠]

تَعْنِي الطَّاعَةَ، أَيْ لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ :

﴿فَقالوا أَنُؤمِنُ لِبَشَرَينِ مِثلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدونَ﴾

[المؤمنون: ٤٧]

كَلِمَةُ عَابِدُونَ تَعْنِي خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ، فَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِخُضُوعِهِمْ لِفِرْعَوْنَ عَبَدُوهُ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

﴿وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَني إِسرائيلَ﴾

[الشعراء: ٢٢]

أَيْ صَيَّرْتَهُمْ عُبَّادًا لَكَ بِإِخْضَاعِهِمْ لَكَ .

إِذَنْ الْعِبَادَةُ شَرْعًا هِيَ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، فَمَنْ نَخْضَعُ لَهُ، نَعْبُدُهُ

هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ حَالَةٌ مُلَازِمَةٌ لِلْمَرْءِ، فَالْعَابِدُ هُوَ الْخَاضِعُ الْمُتَذَلِّلُ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ لِحَالَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَتْ صِفَاتٌ لِأَعْمَالٍ بِعَيْنِهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ مُهِمٌّ جِدًّا يَجْعَلُ مِنْ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ كُلِّهَا عِبَادَةً

فَمَثَلًا عَدَمُ قَوْلِ أَوْ فِعْلِ الْحَرَامِ خُضُوعًا لِلَّهِ هُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْعِبَادَةِ، فَالْمَرْءُ فِي عِبَادَةٍ لِلَّهِ مَا لَمْ يَبْدَأْ فِي فِعْلِ مَعْصِيَةٍ، سَاعَتَهَا يَخْرُجُ مِنْ حَالَةِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ خَاضِعًا لِلَّهِ وَحْدَهُ.

إِذَنْ الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى شَعَائِرَ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ خُضُوعٌ لِلَّهِ دَائِمٌ مَا دَامَ الْمَرْءُ مُسْلِمًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنَّهُ خَاضِعٌ لِلَّهِ، أَوْ خَاضِعٌ لِهَوَاهُ، وَأَقْصِدُ بِالْهَوَى هُنَا كُلَّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ

فَالْمَرْءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا عَنْ الْحَرَامِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِفًا لِلْحَرَامِ خُضُوعًا لِهَوَاهُ.

﴿أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَن يَهديهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾ 

[الجاثية: ٢٣]

سُؤَالٌ لِمَعْرِفَةِ مَدَى اسْتِيعَابِكَ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ :

مَا هِيَ الْفُرُوقُ الْعَمَلِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ بَيْنَ تَعْرِيفِ الْعِبَادَةِ بِكَوْنِهَا الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَبَيْنَ تَعْرِيفِهَا بِكَوْنِهَا اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؟

إِجَابَةُ هَذَا السُّؤَالِ مُهِمَّةٌ جِدًّا لِأَنَّهَا سَوْفَ تَقِيسُ مَدَى فَهْمِكَ، ضَعْ الْجَوَابَ مِنْ فَضْلِكَ فِي تَعْلِيقٍ لِنُنَاقِشَهُ مَعَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

شُرُوطُ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ

عَرَفْنَا مِنَ الْمِحْوَرِ السَّابِقِ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ لِلَّهِ، أَيْ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ، وَلِكَيْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مَقْبُولًا يَجِبُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿إِنّا أَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدّينَ۝أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَى اللَّهِ زُلفى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم في ما هُم فيهِ يَختَلِفونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ 

[الزمر: ٢-٣]

فَلَا يَعْبُدُ الْمَرْءُ إِلَّا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ، أَيْ لَا يَخْضَعُ وَلَا يَتَذَلَّلُ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الشَّرْطُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مُشْرِكٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿ إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمينَ مِن أَنصارٍ﴾ 

[المائدة: ٧٢]

إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ لِلَّهِ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنْ أَسْلَمَ قَنَاعَةً وَرِضًى، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَخْلُصَ لِلَّهِ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ مُشْرِكًا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ

[مسلم، صحيح مسلم، ١٥١٣/٣]

فَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ، الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ أَخْلَصَ فِي كُلِّ عِبَادَاتِهِ إِلَّا الْقِتَالَ، فَقَدْ قَاتَلَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ، وَمِنْ ثَمَّ أَصْبَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَمِثْلُهُ الْقَارِئُ وَالْمُنْفِقُ.

كَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ وِفْقَ مَا شَرَعَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ

[مسلم، صحيح مسلم، ١٣٤٣/٣]

وَلِكَوْنِ شَرْطِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمُطَاعُ وَحْدَهُ، وَلِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ كَيْفَ نَعْبُدُهُ، وَبِمَ نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا نَشَاءُ لِأَنَّنَا سَاعَتُهَا نَكُونُ مُشَرِّعِينَ مَعَ اللَّهِ، مُشْرِكِينَ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا نَنْقَادُ لَهُ وَحْدَهُ.

أَقْسَامُ عِبَادَةِ اللَّهِ

عَرَفْنَا لِلتَّوِّ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، لِذَلِكَ فَأَقْسَامُ عِبَادَةِ اللَّهِ سَوْفَ تَكُونُ كَمَا يَلِي :

الْعِبَادَةُ بِالْقَلْبِ:

وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ خَاضِعاً مُتَذَلِّلاً لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، بِحَيْثُ يَفْرُغُ الْقَلْبُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُحِبُّ إِلَّا اللَّهَ، أَوْ مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي حُبِّهِ:

﴿قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ﴾ 

[التوبة: ٢٤]

وَلَا يَخافُ إلَّا الله: 

﴿يا بَني إِسرائيلَ اذكُروا نِعمَتِيَ الَّتي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم وَإِيّايَ فَارهَبونِ﴾

 [البقرة: ٤٠]

وَلَا يَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ: 

﴿وَيَقولونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزوا مِن عِندِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهُم غَيرَ الَّذي تَقولُ وَاللَّهُ يَكتُبُ ما يُبَيِّتونَ فَأَعرِض عَنهُم وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكيلًا﴾ 

[النساء: ٨١]

إِلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ النَّاجِمَةِ عَنْ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ.

هَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَهَمُّ الْأَقْسَامِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَسَاسُ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْمَرْءُ، فَإِذَا صَلَحَ وَاسْتَقَامَ، صَلُحَ الْمَرْءُ

52 – حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ “

[البخاري ,صحيح البخاري ,1/20]

الْعِبَادَةُ بِاللِّسَانِ 

هِيَ خُضُوعُ اللِّسَانِ لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قَوْلَهُ، كَالْكَذِبِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَنَحْوِهِ

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ إِنَّ اللِّسَانَ مُخْبِرٌ عَمَّا فِي الْقَلْبِ، فَيَكْفِي أَنْ يَخْضَعَ الْقَلْبُ لِيَخْضَعَ اللِّسَانُ، وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ، وَلَكِنْ أَحْيَانًا لِسَبَبٍ مَا، قَدْ يَقُولُ اللِّسَانُ خِلَافُ مَا فِي الْقَلْبِ، فَمَثَلًا قَدْ يَكْفُرُ اللِّسَانُ، وَيَكُونُ الْقَلْبُ مُؤْمِنٌ، وَلَكِنَّهُ لِسَبَبٍ مَا، كَفَرَ بِلِسَانِهِ أَوْ جَوَارِحِهِ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ كُفْرًا عِنْدَ اللَّهِ، لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا مَا وَقَعَ تَحْتَ الْإِكْرَاهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إيمانِهِ إِلّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإيمانِ وَلكِن مَن شَرَحَ بِالكُفرِ صَدرًا فَعَلَيهِم غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُم عَذابٌ عَظيمٌ﴾ 

[النحل: ١٠٦]

 فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكُفْرُ بِاللِّسَانِ مُعْتَبَرًا، لَمَا قَيَّدَ غَيْرَ الْمُعْتَبَرِ مِنْهُ بِالْإِكْرَاهِ فَقَطْ، لِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ خُضُوعِ اللِّسَانِ أَيْضًا، بِحَيْثُ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا أَذِنَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ.

الْعِبَادَةُ بِالْجَوَارِحِ

وَهِيَ أَنْ تَخْضَعَ جَوَارِحُ الْمَرْءِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَا يَفْعَلُ عَمَلًا مُحَرَّمًا أَيًّا كَانَ .

نُلَاحِظُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي كُلِّ شَيٍّ، فَهِيَ تَسْلِيمٌ مُطْلَقٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ ثَمَّ فَالْعِبَادَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ مُسَمَّيَاتٌ مُتَرَادِفَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّطْبِيقُ، فَكُلُّهَا تُفِيدُ تَسْلِيمَ النَّفْسِ تَسْلِيمًا مُطْلَقًا لِلَّهِ، بِحَيْثُ لَا تَخْضَعُ وَلَا تُطِيعُ إِلَّا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ.

أَهَمِّيَّةُ الْعِبَادَةِ

هُنَاكَ مَبْدَأٌ مَنْطِقِيٌّ يَقُولُ بِالتَّنَاسُبِ الطَّرْدِيِّ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالسَّبَبِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْفِعْلُ عَظِيمًا، كَانَ السَّبَبُ وَرَاءَهُ عَظِيمًا كَذَلِكَ، وَلْنَضْرِبْ عَلَيْهِ مَثَلًا.

لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ طَلَبَ مِنْكَ السَّيْرَ لِمَسَافَةِ أَلْفٍ كَمْ فِي مُقَابِلِ أَنَّهُ سَوْفَ يُعْطِيكَ قِطْعَةَ خُبْزٍ، فَإِنَّكَ عَلَى الْأَرْجَحِ لَنْ تَقْبَلَ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ إِذَا قَالَ لَكَ سَوْفَ أُعْطِيكَ كِيلوغْراماً مِنْ الذَّهَبِ، فَإِنَّكَ فِي الْغَالِبِ سَوْفَ تُغَيِّرُ رَأْيَكَ، وَتَقْبَلُ الْعَرْضَ، إِذَا كَانَ بِإِمْكَانِكَ بَدَنِيًّا، لِأَنَّ السَّبَبَ هَذِهِ الْمَرَّةَ تَنَاسَبَ مَعَ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ.

إِذَا طَبَّقْنَا هَذَا الْمَبْدَأَ عَلَى الْكَوْنِ نَفْسِهِ، فَإِنَّنَا بِلَا شِكٍ، سَوْفَ نُدْرِكُ أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ خُلِقَ لِغَايَةٍ عَظِيمَةٍ، عَظِيمَةٍ جِدًّا بِقَدْرِ عَظَمَةِ الْكَوْنِ نَفْسِهِ، فَمَا هِيَ هَذِهِ الْغَايَةُ ؟

إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْقُرْآنِ نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْإِنْسَانِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا:

﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ استَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ 

[البقرة: ٢٩]

ثُمَّ إِذَا وَاصَلْنَا الْقِرَاءَةَ فَإِنَّنَا نَجِدُ قَوْلَهُ تَعَالَى:

﴿أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتابٍ مُنيرٍ﴾ 

[لقمان: ٢٠]

إِذَنْ كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ مُسَخَّرٌ لِلْإِنْسَانِ، فَمَا هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا الْإِنْسَانُ، وَسُخِّرَ لَهُ بِسَبَبِهَا الْكَوْنُ كُلُّهُ ؟

الْجَوَابُ، هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ:

﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ۝ما أُريدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَما أُريدُ أَن يُطعِمونِ۝إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتينُ﴾ 

[الذاريات: ٥٦-٥٨]

إِذَنْ فَالْعِبَادَةُ شَأْنُهَا عَظِيمٌ جِدًّا، فَاَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ هَذَا الْكَوْنِ وَسَخَّرَهُ لَكَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكَ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَأَرْسَلَ إِلَيْكَ رُسُلَهُ، وَخَاطَبَكَ بِكَلَامِهِ، كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، فَإِذَا أَخْفَقْتَ فِي عِبَادَتِهِ، كَانَ عِقَابُكَ أَلِيماً بِدَرَجَةٍ تَفُوقُ الْخَيَالَ، وَهَذَا مَا فَهِمَهُ الْمُؤْمِنُونَ، لِذَلِكَ أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:

﴿إِنَّ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الأَلبابِ۝الَّذينَ يَذكُرونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلى جُنوبِهِم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ۝رَبَّنا إِنَّكَ مَن تُدخِلِ النّارَ فَقَد أَخزَيتَهُ وَما لِلظّالِمينَ مِن أَنصارٍ﴾ 

[آل عمران: ١٩٠-١٩٢]

وَلِكَيْ يَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ، لَا سَبِيلَ إِلَّا الْإِيمَانَ، الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُوَافِقُ الْعَمَلَ، وَيَكُونُ صَاحِبُهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَيَنْتَظِرُ وَعْدَ اللَّهِ

﴿رَبَّنا إِنَّنا سَمِعنا مُنادِيًا يُنادي لِلإيمانِ أَن آمِنوا بِرَبِّكُم فَآمَنّا رَبَّنا فَاغفِر لَنا ذُنوبَنا وَكَفِّر عَنّا سَيِّئَاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الأَبرارِ۝رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخزِنا يَومَ القِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخلِفُ الميعادَ﴾ 

[آل عمران: ١٩٣-١٩٤]

فَتَأْتِي الِاسْتِجَابَةُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ:

﴿فَاستَجابَ لَهُم رَبُّهُم أَنّي لا أُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى بَعضُكُم مِن بَعضٍ فَالَّذينَ هاجَروا وَأُخرِجوا مِن دِيارِهِم وَأوذوا في سَبيلي وَقاتَلوا وَقُتِلوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأُدخِلَنَّهُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ ثَوابًا مِن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوابِ﴾ 

[آل عمران: ١٩٥]

إِنَّ عَظَمَةَ الْعِبَادَةِ تَعْنِي أَنَّنَا مَهْمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَضْحِيَاتٍ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِهَا، نَظَلُّ مُقَصِّرِينَ، فَلَوْ دَفَعْنَا أَرْوَاحَنَا لَمَا كَانَتْ شَيْئًا فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُنَا فَوْقَ طَاقَتِنَا، فَإِذَا هَاجَرَ الْمَرْءُ، وَأُخْرِجَ مِنْ أَرْضِهِ، وَأُوذِيَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَاتَلَ، وَقُتِلَ، كَانَ قَدْ أَدَّى مَا خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، وَفَازَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.

إِنَّ فَهْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُهِمٌّ جِدًّا، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، فَالْعِبَادَةُ شَأْنُهَا عَظِيمٌ جِدًّا مِنْ أَجْلِهَا سَخَّرَ لَنَا مَا فِي الْكَوْنُ .

إِنَّ عَظَمَةَ الْعِبَادَةِ تَعْنِي أَيْضًا أَهَمِّيَّةَ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَرِيمٌ، خَلَقَهُ اللَّهُ لِغَايَةٍ عَظِيمَةٍ، فَلَا يَنْبَغِي تَحْقِيرُهُ، أَوْ التَّطَاوُلُ عَلَيْهِ، إِلَّا فِي حَالَاتٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ جِدًّا، لِذَلِكَ فَأَنْتَ لَسْتَ بِالْمَخْلُوقِ الْبَسِيطِ التَّافِهِ، بَلْ أَنْتَ تَحْمِلُ أَمَانَةً عَظِيمَةً، اللَّهُ يُخَاطِبُكَ بِكَلَامِهِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْكَ رُسُلَهُ، وَأَعَدَّ لَكَ جَنَّةً عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَنَاراً مِثْلَهَا، فَانْتَبِهْ فَمُهِمَّتُكَ مُهِمَّةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا.

هَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ فِعْلًا ؟

وَصَلْنَا لِلْجَانِبِ التَّطْبِيقِيِّ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، فَقَدْ عَرَفْنَا الْعِبَادَةَ نَظَرِيًّا وَعَمَلِيًّا، وَبَقِيَ أَنْ نَعْرِفَ إِنْ كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا نَزْعُمُ، أَمْ لَا؟

أُرِيدُكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِي إِجَابَةِ السُّؤَالِ التَّالِي:

هَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ؟

وَلِلتَّأْكِيدِ فَالسُّؤَالُ لَيْسَ هَلْ نَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ، لِأَنَّنَا بِكُلِّ تَأْكِيدٍ نَعْبُدُ اللَّهَ، وَلَكِنْ هَلْ نَعْبُدُهُ وَحْدَهُ؟

خُذْ وَقْتَكَ، وَلَا تَسْتَعْجِلْ، فَكُلَّمَا فَكَرْتَ كَانَ أَحْسَنَ، فَنَحْنُ نَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِعْلًا، وَلَيْسَ فَقَطْ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ مَاذَا تَعْنِي عِبَادَةُ اللَّهِ.

إِذَا كُنْتَ انْتَهَيْتَ مِنَ التَّفْكِيرِ، تَعَالَ بِنَا نُحَاوِلُ سَوِيَّةً الْإِجَابَةَ عَلَى السُّؤَالِ، هَلْ نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ؟

لِكَيْ تَتَّضِحَ الْإِجَابَةُ دَعْنَا نَضَعُ كَلِمَةَ “نَخْضَعُ” بَدَلًا مِنْ “نَعْبُدُ” الَّتِي هِيَ بِنَفْسِ مَعْنَاهَا، فَيُصْبِحُ السُّؤَالُ:

هَلْ نَخْضَعُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؟

أَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجَابَةَ الْآنَ وَاضِحَةٌ, فَهِيَ لِلْأَسَفِ لَا، فَنَحْنُ فِي وَاقِعِنَا نَخْضَعُ لِسُلُطَاتٍ كَثِيرَةٍ دُونَ إِذْنٍ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَهَمِّهَا :

سُلْطَةُ الْمُجْتَمَعِ

المجتمع

فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُجْتَمَعَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، فَإِنَّهُ لَا سُلْطَةَ لَهُ، مُسْتَقِلَّةً بِذَاتِهَا، لِأَنَّهُ سَوْفَ يَكُونُ خَاضِعًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ لِلْأَسَفِ لَمَّا تَمَّ تَحْرِيفُ مَفْهُومِ الْإِيمَانِ، وَانْتَشَرَتْ الْمَعَاصِي، أَصْبَحَ للْمُجْتَمَعِ سُلْطَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، تُشَرِّعُ تَشْرِيعَاتٍ تُسَمَّى عَادَاتٍ وَتَقَالِيدَ، فِي الْغَالِبِ بَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُنَا تَبْرُزُ سُلْطَةُ الْمُجْتَمَعِ كَسُلْطَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُوَازِيَةٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ الْخَاضِعِينَ لَهَا.

فَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْمُجْتَمَعِ هُوَ فِعْلُ أَمْرٍ حَرَامٍ فِي شَرْعِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلْمُجْتَمَعِ يَنْبِذُ شَرْعَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُطِيعُ الْمُجْتَمَعَ خَوْفًا عَلَى سُمْعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ.

كَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا وَلَكِنَّهُ عَادِيٌّ أَوْ مُبَاحٌ فِي دِينِ الْمُجْتَمَعِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلْمُجْتَمَعِ يَفْعَلُهُ، وَلَا يَشْعُرُ بِالْحَرَجِ مِنْ ذَلِكَ، مِثَالُ ذَلِكَ جَرِيمَةُ الزِّنَا، فَهَذِهِ الْجَرِيمَةُ فِي نَظَرِ بَعْضِ الْمُجْتَمَعَاتِ تُعْتَبَرُ مُبَاحَةً لِلذُّكُورِ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ أَمْرًا مَأْلُوفًا، بَيْنَمَا تُعْتَبَرُ ذَنْبًا عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنَاثِ، مِمَّا جَعَلْنَا نَرَى الشَّبَابَ فِي هَذِهِ الْبُلْدَانِ يُمَارِسُ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ دُونَ وَجْلٍ، وَنَرَى الْإِنَاثَ يَجْتَنِبِنَهَا لَيْسَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا خَوْفًا مِنْ الْمُجْتَمَعِ، وَكِلَا الطَّرَفَانِ عَابِدٌ لِلْمُجْتَمَعِ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِ.

إِنَّ قُوَّةَ سُلْطَةِ الْمُجْتَمَعِ لَا تَكْمُنُ فِي شِدَّةِ عُقُوبَةِ الْمُجْتَمَعِ الَّتِي يُطَبِّقُهَا عَلَى الْمُخَالِفِ لَهُ، وَإِنَّمَا فِي كَوْنِ الْفَرْدِ أَصْلًا نِتَاجُ الْمُجْتَمَعِ، أَيْ أَنَّهُ مُبَرْمَجٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْمُجْتَمَعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَتَصَوُّرَاتُهُ، وَثَقَافَتُهُ، وَنَمَطُ تَفْكِيرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ، مُسْتَمَدٌّ مِنْ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَتَرَبَّى عَلَى عِبَادَةِ الْمُجْتَمَعِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهُنَا تَكْمُنُ قُوَّةُ سُلْطَةِ الْمُجْتَمَعِ، الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ التَّحَرُّرِ مِنْهَا أَوَّلًا، لِكَيْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا سَوْفَ نَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَقَالَاتِ الْقَادِمَةِ.

إِذَا كُنْتَ تَتَّفِقُ مَعِي بِخُصُوصِ مَا ذَكَرْتُ حَوْلَ سُلْطَةِ الْمُجْتَمَعِ، أَعْطِ صُوَرًا مِنْ عِبَادَةِ الْمُجْتَمَعِ فِي بَلَدِكَ فِي التَّعْلِيقَاتِ لِنُنَاقِشَهَا مَعًا، وَإِذَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ مَعِي، فَاكْتُبْ لِي وَجْهَ اعْتِرَاضِكَ لِنُنَاقِشَهُ أَيْضًا.

سُلْطَةُ الْقَانُونِ الْوَضْعِيِّ

القانون الوضعي

نَحْنُ نَعِيشُ فِي دُوَلٍ تَحْكُمُ بِقَانُونٍ مِنْ صُنْعِ بَشَرٍ مَجَاهِيلَ، لَا نَعْرِفُهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَنَا، وَمَعَ ذَلِكَ نَخْضَعُ لَهُ خُضُوعًا مُطْلَقًا، فَنَدْفَعُ أَمْوَالَنَا إِذَا حَكَمَ الْقَانُونُ بِذَلِكَ (الضَّرَائِبُ) وَنَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ لِفَضِّ نِزَاعَاتِنَا، قَدْ اتَّخَذْنَا مِنْهُ دِينًا نَتَقَيَّدُ بِهِ، لِأَنَّ الدِّينَ مَا يَتَقِيَّدُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ نُظْمٍ وَقَوَانِينَ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿فَبَدَأَ بِأَوعِيَتِهِم قَبلَ وِعاءِ أَخيهِ ثُمَّ استَخرَجَها مِن وِعاءِ أَخيهِ كَذلِكَ كِدنا لِيوسُفَ ما كانَ لِيَأخُذَ أَخاهُ في دينِ المَلِكِ إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ نَرفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ﴾ 

[يوسف: ٧٦]

فِي دَينِ الْمَلِكِ، أَيْ قَانُونِ الْمَلِكِ، لِذَلِكَ تَقَيُّدُنَا بِالْقَانُونِ هُوَ تَدَيُنٌ بِهِ، وَبِالتَّالِي فَهُوَ شِرْكٌ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

يَحْتَجُّ الْبَعْضُ أَنَّ الْقَانُونَ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ إِجْرَاءَاتٍ تَنْظِيمِيَّةٍ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ هُوَ تَشْرِيعَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ، تَمَسُّ مُخْتَلِفَ جَوَانِبِ حَيَاةِ الْمَرْءِ السِّيَاسِيَةَ، وَالِاقْتِصَادِيَّةَ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَالْقَضَائِيَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ دِينٌ مُوَازٍ تَمَامًا، يَتَقَاطَعُ أَحْيَانًا مَعَ الشَّرِيعَةِ، وَأَحْيَانًا أُخْرَى يَخْتَلِفُ مَعَهَا.

سُؤَالٌ، مَا رَأْيُكَ فِي الْقَانُونِ الْوَضْعِيِّ، هَلْ تَتَّفِقُ مَعِي، أَمْ تَخْتَلِفُ مَعِي؟

اكْتُبْ لِي رَأْيَكَ فِي التَّعْلِيقَاتِ فَهُوَ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ.

سُلْطَةُ الْأَحْبَارِ

عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَصْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنْ الشَّعَائِرِ، إِلَّا أَنَّنَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ حَتَّى فِي هَذِهِ الشَّعَائِرِ نُشْرِكُ بِاَللَّهِ، حَيْثُ نَتَّخِذُ مُشَرِّعِينَ مَعَهُ يُشَرِّعُونَ بِآرَائِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ يُفْتُونَ بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

[البخاري، صحيح البخاري، ٣١/١]

إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ سَبَبُ تَخَلُّفِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ هُمْ سَبَبُ ضَلَالِهَا عَنْ دِينِهَا، وَمِنْ ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ إِلَى الْيَوْمِ، وَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْهَمَهُ النَّاسُ .

لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ، لَيْسَ فِيهِ لِلْبَشَرِ غَيْرُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبِالتَّالِي فَتْحُ بَابِ الرَّأْيِ فِي الدِّينِ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مَأْجُورٌ صَاحِبُهُ، هُوَ عَيْنُ الضَّلَالِ، وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ۝مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ 

[النحل: ١١٦-١١٧]

وَهُوَ سَبَبُ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا:

﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ﴾ 

[التوبة: ٣١]

فَأَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ كَانُوا يَشْرَعُونَ لَهُمْ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَفْهَمُ مِنْهُمْ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَقْدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، تَمَامًا كَمَا هِيَ الْحَالُ عِنْدَنَا

وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ سَوْفَ نُفْرِدُ لِلْاجْتِهَادِ بَحْثاً كَامِلاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَدْ تَتَصَوَّرُ أَنَّكَ عِنْدَ سُؤَالِكَ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّ الْفَتْوَى الَّتِي يُعْطِيكَ هِيَ وِفْقَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فِي الْغَالِبِ، فَأَغْلَبُ الْفَتَاوِي هِيَ رَأْيٌ مَحْضٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أُسُسٍ مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْضِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الطَّعْنِ فِي كَمَالِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَبَيَانِهِمَا لِكُلِّ شَيْءٍ نَحْتَاجُهُ، فَهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : 

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل: ٨٩]

أَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَنْ بَيَانِ اللَّهِ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْوَحْيِ، فَصَارَ الْوَحْيُ عِنْدَهُمْ قَاصِرًا عَنْ بَيَانِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ الْمَرْءُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ :

فَإِنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِالْعُشْرِ مِنْ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ

[الجويني، أبو المعالي، البرهان في أصول الفقه، ٣٧/٢]

فَصَارَ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الرَّأْيُ الْمَحْضُ يُفْتُونَ بِهِ، فَيَضِلُّونَ، وَيُضِلُّونَ، كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِذَلِكَ لِكَيْ تَسْلَمَ مِنْهُمْ عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطُوكَ الْفَتْوَى، هَلْ هِيَ حُكْمُ اللَّهِ، أَمْ رَأْيُهُمْ، فَفِي الْغَالِبِ لَنْ يَتَجَرَّأُوا عَلَى قَوْلِ أَنَّهَا حُكْمُ اللَّهِ إِذَا كَانَتْ رَأْيَهُمْ، أَوْ رَأْيَ غَيْرِهِمْ، فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ سَوْفَ يُخْبِرُونَكَ بِأَنَّهَا ظَنٌّ وَاجْتِهَادٌ لَهُمْ، أَوْ لِشُيُوخِهِمْ.

أَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُعَقَّدَةٌ جِدًّا وَشَائِكَةٌ، لِذَلِكَ قَدْ لَا تَكُونُ اسْتَوْعَبْتَهَا بِمَا يَكْفِي، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالرَّأْيِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى شُبُهَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، لِذَلِكَ سَوْفَ نُرْجِئُ النِّقَاشَ فِيهَا إِلَى حِينِ نَتَفَرَّغُ لَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الْمُهِمُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ أَنْ يَدِينَ اللَّهَ بِرَأْيِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ .

كَيْفَ نُحَقِّقُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ؟

عِنْدَمَا تَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى:

﴿فَاستَجابَ لَهُم رَبُّهُم أَنّي لا أُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى بَعضُكُم مِن بَعضٍ فَالَّذينَ هاجَروا وَأُخرِجوا مِن دِيارِهِم وَأوذوا في سَبيلي وَقاتَلوا وَقُتِلوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَأُدخِلَنَّهُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ ثَوابًا مِن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوابِ﴾ 

[آل عمران: ١٩٥]

فَلَا شَكَّ أَنَّكَ سَوْفَ تَتَسَاءَلُ لِمَاذَا الْهِجْرَةُ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَالْأَذِيَّةُ وَالْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِكَيْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟

أَلَا يَكْفِي أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لِأَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟

الْجَوَابُ، نَعَمْ، يَكْفِي أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لِكَيْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ حَتَّى تَتَحَرَّرَ مِنْ السُّلُطَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَخْضَعُ لَهَا، وَهُنَا تَبْدَأُ الْأَذِيَّةُ بِسَبَبِ رَدَّةِ فِعْلِ هَذِهِ السُّلُطَاتِ عَلَى تَمَرُّدِكَ عَلَيْهَا .

هَذَا الصِّرَاعُ يَكُونُ أَسَاسًا مَعَ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّهَا تَرَى فِيكَ تَهْدِيدًا لِوُجُودِهَا، وَعِنْدَهَا قُوَةٌ عَسْكَرِيَةٌ، وَبِالتَّالِي فَقَضِيْتُكَ لَمْ تَعُدْ قَضِيَّةَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، بَلْ هِيَ قَضِيَّةُ تَخْرِيبِ الدَّوْلَةِ وَزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ وَلَوْ بِتُهْمَةٍ كَاذِبَةٍ، فَهَؤُلَاءِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ حِينَ أَعْلَنُوا إِيمَانَهُمْ:

﴿قالوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمينَ۝رَبِّ موسى وَهارونَ﴾ 

[الأعراف: ١٢١-١٢٢]

أَتَتْهُمُ التُّهْمَةُ بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، لِتَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ الْفَوْرِيَّةُ:

﴿قالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّ هذا لَمَكرٌ مَكَرتُموهُ فِي المَدينَةِ لِتُخرِجوا مِنها أَهلَها فَسَوفَ تَعلَمونَ۝لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ﴾ 

[الأعراف: ١٢٣-١٢٤]

مَعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ يَعْلَمُ جَيِّدًا أَنَّهُ هُوَ مَنْ حَشَرَ السَّحَرَةَ، وَأَنَّهُ هُوَ مَنْ أَكْرَهَهُمْ عَلَى مُمَارَسَةِ السِّحْرِ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبِلَادِ مُنْذُ سِنِينَ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ اتَّهَمَهُمْ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى يُخَفِّفَ مِنْ وَطْئَةِ الْهَزِيمَةِ، وَلِكَيْ يُبَرِّرَ الْعُقُوبَةَ الشَّنِيعَةَ الَّتِي عَاقَبَهُمْ بِهَا.

طَبْعًا السَّحَرَةُ فَضَحُوهُ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، مُعْلِنِينَ زَيْفَ تُهْمَتِهِ لَهُمْ :

﴿قالوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ۝وَما تَنقِمُ مِنّا إِلّا أَن آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتنا رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَتَوَفَّنا مُسلِمينَ﴾ 

[الأعراف: ١٢٥-١٢٦]

وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ لَا يَهْتَمُّونَ لِلْحَقِّ وَلَا الْعَدَالَةِ، فَقَدْ كَانَ هُنَاكَ إِجْمَاعٌ عَلَى خَطَرِ مُوسَى وَإِفْسَادِهِ فِي الْأَرْضِ :

﴿وَقالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَومَهُ لِيُفسِدوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبناءَهُم وَنَستَحيي نِساءَهُم وَإِنّا فَوقَهُم قاهِرونَ﴾ 

[الأعراف: ١٢٧]

لِذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُحَقِّقَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَعَ السَّحَرَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَسْلُكَ نَفْسَ الطَّرِيقِ، وَتَسْتَعِدَّ لِنَفْسِ النَّتِيجَةِ، الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَمَا سَبَقَ وَأَسْلَفْتُ مَهْمَا قَدَّمْنَا فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ عِبَادَةِ اللَّهِ، نَبْقَى مُقَصِّرِينَ لِأَنَّهَا عَظِيمَةٌ جِدًّا فَهِيَ سَبَبُ وُجُودِ هَذَا الْكَوْنِ كُلِّهِ .

قَدْ عَلِمَ الله ضَعْفَنَا، وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا، لِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَيْ نُحَقِّقَ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي زَمَانِنَا دُونَ أَنْ نَتَعَرَّضَ لِمَا تَعَرَّضَ لَهُ السَّحَرَةُ، عَلَيْنَا أَنْ نُهَاجِرَ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَيْثُ لَا سُلْطَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا سِوَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ رَبُّنَا فِي آيَةٍ مُلِئَتْ بِشَارَةً وَرَحْمَةً: 

﴿يا عِبادِيَ الَّذينَ آمَنوا إِنَّ أَرضي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعبُدونِ﴾ 

[العنكبوت: ٥٦]

وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ :

«يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»

[البخاري ,صحيح البخاري ,1/13]

أرض الله الواسعة

لِذَلِكَ نَخْرُجُ إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَيْثُ الْمَسَاحَاتُ الْمَفْتُوحَةُ، وَالصَّحَارِي، وَالْغَابَاتُ، مُهَاجِرِينَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَمَنْ يُهَاجِرْ إِلَى اللَّهِ فَلَهُ الْبِشَارَةُ الْعَظِيمَةُ: 

﴿وَمَن يُهاجِر في سَبيلِ اللَّهِ يَجِد فِي الأَرضِ مُراغَمًا كَثيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخرُج مِن بَيتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسولِهِ ثُمَّ يُدرِكهُ المَوتُ فَقَد وَقَعَ أَجرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا﴾ 

[النساء: ١٠٠]

أَمَّا مَنْ بَقِيَ سَاكِتًا خَاضِعًا لِغَيْرِ اللَّهِ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ مُسْتَضْعَفٌ، فَهُوَ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، لِخُضوعِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: 

﴿إِنَّ الَّذينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنفُسِهِم قالوا فيمَ كُنتُم قالوا كُنّا مُستَضعَفينَ فِي الأَرضِ قالوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِروا فيها فَأُولئِكَ مَأواهُم جَهَنَّمُ وَساءَت مَصيرًا﴾ 

[النساء: ٩٧]

وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِعْلًا، وَهُمْ مَعَ اسْتِضْعَافِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، لِيُهَاجِرُوا فِي أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ:

﴿إِلَّا المُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلدانِ لا يَستَطيعونَ حيلَةً وَلا يَهتَدونَ سَبيلًا۝فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفورًا﴾ 

[النساء: ٩٨-٩٩]

أَعْلَمُ أَنَّ أَغْلَبَ الْقُرَّاءِ لِهَذَا الْبَحْثِ تَصْعُبُ عَلَيْهِم الْحُلُولُ السَّابِقَةِ، فَهُم غَيْرُ قَادِرينَ عَلَى مُوَاجَهَةِ الدَّوْلَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى السِّجْنِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ غَيْرُ قَادِرينَ عَلَى تَرْكِ الْعَيْشِ فِي الْمُدُنِ، وَالْهِجْرَةِ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ.

وَالسَّبَبُ أَنَّهُم لَمْ يَتَحَرَّروا بَعْدُ مِنْ سُلُطَاتِ الْبَشَرِ بِشَكْلٍ كُلِّيٍّ، فَلَا يَزَالُ هُنَاكَ جَوَانِبُ كَثِيرَةٌ فِي حَيَاتِهِم خَاضِعونُ فِيهَا لِلْمُجْتَمَعِ، وَلَوْ بِشَكْلٍ لَا شُعُورِيٍّ، لِذَلِكَ سَوْفَ نُعَالِجُ فِي الْمَقَالَاتِ التَّالِيَةِ السُّبُلَ الْعَمَلِيَّةَ لِلتَّحَرُّرِ مِنْ سُلُطَاتِ الْبَشَرِ مُعْتَمِدِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَجْرِبَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، لَعَلَّنَا نَتَحَرَّرُ مِنْ خَوْفِنَا، وَنُسَلِّمُ أَنْفُسَنَا لِلَّهِ تَسْلِيمًا صَادِقًا، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا بِهِ خَطَايَانَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَيَنْصُرُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

تحميل البحث بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-