أهم صفات المتقين في القرآن

نُوَاصِلُ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الَّذِي افْتَتَحْنَاهُ بِتَدَبُّرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْيَوْمَ سَوْفَ نَقِفُ مَعَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تُحَدِّثُنَا عَنْ الْمُتَّقِينَ الْمُفْلِحِينَ لِنَعْرِفَ أَيْنَ نَحْنُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يُعْرَفُونَ بِصِفَاتِهِمْ، فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَا، كَانَ فِعْلًا مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ التَّقْوَى وَالْإِيمَانَ حَقِيقَةٌ تَظْهَرُ فِي صِفَاتٍ جَلِيَّةٍ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ دَعْوَى بِاللِّسَانِ، وَبِسْمِ اللَّهِ نَبْدَأُ بِعَرْضِ مَحَاوِرِ الْمَقَالِ:

مَا هُوَ التَّقْوَى وَمَنْ هُمُ الْمُتَّقُونَ

أهم صفات المتقين في القرآن

التَّقْوَى مَصْدَرُ فِعْلَ اتَّقَى، وَهُوَ مَزِيدُ مَنْ وَقِيَ عَلَى وَزْنِ افْتَعَلَ، وَوَقِيَ بِمَعْنَى صَانَ كَمَا قَالَ الزُّبَيْدِيُّ

وقِي: (ي {وَقَاهُ) } يَقِيهِ ( {وقْياً) ، بِالْفَتْح، (} ووِقايَةً) ، بالكسْر، ( {وواقِيَةً) ، على فاعِلَةٍ: (صانَهُ) وسَتَرَهُ عَن الأَذَى وحَمَاهُ وحَفِظَه، فَهُوَ} واقٍ؛ وَمِنْه قولهُ تَعَالَى: {مالهُمْ مِن اللهِ من {واقٍ} ؛ أَي مِن دَافِعٍ

[مرتضى الزبيدي ,تاج العروس ,40/226]

فَاتَّقَى إِذَنْ تَعْنِي صَانَ نَفْسَهُ وَحِفِظَهَا وَسَتَرَهَا.

وَالتَّقْوَى شَرْعًا تَعْنِي وِقَايَةَ النَّفْسِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِالْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَهِيَ بِهَذَا تَعْنِي الْإِيمَانَ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿الَّذينَ آمَنوا وَكانوا يَتَّقونَ﴾ 

[يونس: ٦٣]

فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ

وَكَانُوا يَتَّقُونَ

تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيَجْتَنِبُونَ مَعْصِيَتَهُ، وَيُطِيعُونَ أَوَامِرَهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمْ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ سَوْفَ نَشْرَعُ مُسْتَعِينِينَ بِاَللَّهِ فِي بَيَانِ أَهَمِّ صِفَاتِهِمْ فِيمَا يَلِي:

لَقَدْ دَعَوْنَا اللَّهَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ قَائِلِينَ:

﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ۝صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾

[الفاتحة: ٦-٧]

وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا فَوْرًا، فَفِي الْآيَةِ الْمُوَالِيَةِ بَيَانُ الْهِدَايَةِ الَّتِي سَأَلْنَا:

﴿الم۝ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ﴾ 

[البقرة: ١-٢]

فَهَذَا الْكِتَابُ (الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ) لَا رَيْبَ فِيهِ مُطْلَقًا، وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَفِي اسْتِخْدَامِهِ لِلْمَصْدَرِ "هُدًى" دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِمَالِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْهِدَايَةِ، بَدْءًا بِشُرُوطِ الْهِدَايَةِ، وَمَاهِيَّةِ الْهِدَايَةِ، وَصِفَاتِ الْمُهْتَدِينَ، وَصِفَاتِ الْكَافِرِينَ أَيْضًا، وَبَيَانُ سُبُلِهِمْ لِتَكْتَمِلَ بِذَلِكَ الْهِدَايَةُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ السُّبُلِ، وَمَعْرِفَةِ مَاذَا يَلْزَمُ لِلثَّبَاتِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

إِنَّ الْآيَاتِ:

﴿الم۝ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ۝الَّذينَ يُؤمِنونَ بِالغَيبِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ۝وَالَّذينَ يُؤمِنونَ بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُم يوقِنونَ۝أُولئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِم وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾ 

[البقرة: ١-٥]

تَتَبِّعُ تَسَلْسُلًا مَنْطِقِيًّا يَجْعَلُ مِنْ تَطْبِيقِهَا أَمْرًا سَهْلًا وَحَتْمِيًّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِ، كَمَا سَوْفَ نَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِسْمِ اللَّهِ نَشْرَعُ فِي بَيَانِهِ

الِاهْتِدَاءُ بِكِتَابِ اللَّهِ

إِذَا آمَنْتَ بِأَنَّكَ لَمْ تَخْلُقْ عَبَثًا، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ وَسَخَّرَهُ لَكَ لِيُحَاسِبَكَ عَلَى أَعْمَالِكَ:

﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزى كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ 

[الجاثية: ٢٢]

فَإِنَّكَ بِلَا شَكٍّ سَوْفَ تَخَافُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَالْخَطْبُ جِدُّ جَلَلٌ، وَسَوْفَ تَسْعَى لِمَعْرِفَةِ كَيْفَ يُمْكِنُكَ أَنْ تَتَّقِيَ شَرَّ يَوْمِ وَصَفَهُ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ:

﴿فَكَيفَ تَتَّقونَ إِن كَفَرتُم يَومًا يَجعَلُ الوِلدانَ شيبًا۝السَّماءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعدُهُ مَفعولًا﴾ 

[المزمل: ١٧-١٨]

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا سَوْفَ تَلْجَأُ إِلَيْهِ قَادِرًا عَلَى إِجَابَتِكَ إِجَابَةً صَحِيحَةً، وَمَوْثُوقاً جِدًّا، فَالْحَيَاةُ فُرْصَةٌ وَحِيدَةٌ، وَالْخَطَأُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِأَنَّهُ يَعْنِي الْخَسَارَةَ الْأَبَدِيَّةَ، فَأَيْنَ سَوْفَ تَتَّجِهُ لِتَعْرِفَ مَا يَقِيكَ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ التَّنَادِ؟

هَلْ سَوْفَ تَلْجَأُ إِلَى أَبِيكَ؟

أَوْ سَوْفَ تَلْجَأُ إِلَى شَيْخِ مَذْهَبِكَ، أَوْ طَرِيقَتِكَ؟

أَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْخَكَ عَلَى خَطَأٍ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَخُصُوصًا أَنَّ هُنَاكَ طُرُقٌ كَثِيرَةً أُخْرَى أَهْلُهَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ، لِذَلِكَ مِنْ الْمُحْتَمَلِ جِدًّا أَنْ يَكُونَ شَيْخُكَ عَلَى خَطَأٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صَوَابٍ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَدِلَّةٌ، فَغَيْرُهُ أَيْضًا لَدَيْهِ أَدِلَّةٌ، هَلْ سَتُعَلِّقُ مَصِيرَكَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ؟

إِذَا كُنْتَ تُؤْمِنُ فِعْلًا بِالْآخِرَةِ فَلَنْ تَفْعَلَ، فَأَنْتَ يَجِبُ أَنْ تَتَأَكَّدَ أَلْفٍ فِي الْمِئَةِ أَنَّكَ عَلَى الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، فَالْخَطَأُ يَعْنِي الْخُلُودَ فِي النَّارِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟

إِذَا فَكَّرْتَ مَلِيًّا لَنْ تَجِدَ مَصْدَرًا مَوْثُوقًا أَلْفٍ بِالْمِئَةِ يَهْدِيكَ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ تَفْعَلَهُ لِتَنْجُوَ مِنْ النَّارِ غَيْرَ كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا عَنْهُ:

﴿ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ﴾ 

[البقرة: ٢]

وَلِذَلِكَ الِاهْتِدَاءُ بِكِتَابِ اللَّهِ هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَمَا سَبَقَ وَبَيِّنْتُ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي الَّذِي يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ فِعْلًا، لَنْ يَقْبَلَ بِمَصْدَرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ لَنْ يَقْبَلَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ قُرْآنًا وَسُنَّةً، أَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ فِعْلًا رَغْمَ كَوْنِهِ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهَا، فَهُوَ غَيْرُ مُهْتَمٍّ، وَلِذَلِكَ فِي مَوْضُوعِ الْآخِرَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَجِدُهُ، رَأْيِ الْوَالِدِ مَثَلًا، أَوْ كَلَامِ الشَّيْخِ فُلَانٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُهْتَمٍّ حَقًّا.

إِنَّ الْمُتَّقِيَ حِينَ يَأْتِي لِكِتَابِ اللَّهِ بِهَدَفِ الْهِدَايَةِ، سَائِلًا عَنْ طَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يُمَيِّزُهُمْ، فَإِنَّهُ يَجِدُ بَغِيَّتَهُ، وَذَلِكَ عَلَى أَشْكَالٍ مِنْهَا:

أَوَامِرُ اللَّهِ وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ

فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ يَعْرِفُ مَاذَا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ، كَمَا يَعْرِفُ تَجَارِبَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، مُؤْمِنُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ كُلِّ طَرَفٍ، فَيَكُونُ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ، وَنَتِيجَةِ تَطْبِيقِهَا الْعَمَلِيِّ، وَنَتِيجَةِ عَدَمِ تَطْبِيقِهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ رَبُّنَا عَنْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ لِكِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ:

﴿وَلَقَد أَنزَلنا إِلَيكُم آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقينَ﴾ 

[النور: ٣٤]

﴿هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقينَ﴾ 

[آل عمران: ١٣٨]

الْمَوْعِظَةُ

مِنْ بَيْنِ تَجَارِبِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عُقُوبَاتٌ رَادِعَةٌ، جَعَلَهَا اللَّهُ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، فَتَزِيدُهُمْ تَقْوَى لِلَّهِ مِثْلَ مَا حَلَّ بِأَصْحَابِ السَّبْتِ : 

﴿وَلَقَد عَلِمتُمُ الَّذينَ اعتَدَوا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كونوا قِرَدَةً خاسِئينَ۝فَجَعَلناها نَكالًا لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقينَ﴾ 

[البقرة: ٦٥-٦٦]

التَّذْكِرَةُ

مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ النِّسْيَانُ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهِ الْأَمَدُ يَقْسُو قَلْبَهُ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ تَجِدُ الْمَرْءَ فِي لَحْظَةٍ خَائِفًا جِدًّا مِنْ اللَّهِ، مُنِيبًا إِلَيْهِ، ثُمَّ تَجِدُهُ بَعْدَ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ غَافِلًا، غَيْرَ آبِهٍ بِأَوَامِرِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ تَمَامًا أَنَّ هُنَاكَ جَنَّةٌ وَنَارٌ تَنْتَظِرَانِهِ.

لِكَيْ يَبْقَى الْمُؤْمِنُ دَومًا مُتَّقِيًا لِلَّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُنَبِّهٍ يَذْكُرُهُ دَومًا حَتَّى لَا يَقْسُوَ قَلْبَهُ، وَهَذَا الْمُنَبِّهُ مُضَمَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَإِنَّهُ لَتَذكِرَةٌ لِلمُتَّقينَ﴾ 

[الحاقة: ٤٨]

وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ أَخْذِ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَجْوَاءِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا لِيَعِيشَهَا وَاقِعًا فِي حَيَاتِهِ.

الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ

يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَخُصُوصًا الْآخِرَةُ هُوَ الْمُحَرِّكُ الدَّافِعُ لِلتَّقْوَى، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُولِدُ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ، وَبِالتَّالِي السَّعْيَ فِي نَيْلِ مَرْضَاتِهِ، وَالِابْتِعَادَ عَنْ مُوجِبَاتِ سُخَطِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَهَا يَلْجَأُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَعْرِفَ مَا يَفْعَلُ لِكَيْ يَنْجُوَ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهُ يَزِيدُهُ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْ مَسَائِلَ غَيْبِيَّةٍ، سَوَاءٍ كَانَتْ فِي الْمَاضِي كَمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ، أَمْ آتِيَةٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

لِذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يَدْفَعُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَ الِاهْتِدَاءُ بِكِتَابِ اللَّهِ يُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ ذِكْرَ الْمُتَّقِينَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ :

﴿ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ۝الَّذينَ يُؤمِنونَ بِالغَيبِ وَيُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ 

[البقرة: ٢-٣]

إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ يَتَعَدَّى مُجَرَّدَ الِاعْتِرَافِ إِلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَأَخْذِ الدُّرُوسِ وَالْعِبْرِ مِنْهُ، فَمَثَلًا بَعْدَمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ عَذَابٍ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ قَالَ:

﴿أَوَلَم يَهدِ لِلَّذينَ يَرِثونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِها أَن لَو نَشاءُ أَصَبناهُم بِذُنوبِهِم وَنَطبَعُ عَلى قُلوبِهِم فَهُم لا يَسمَعونَ﴾ 

[الأعراف: ١٠٠]

حَتَّى نَأْخُذَ حِذْرَنَا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ نَتُبْ قَدْ يُصِيبُنَا اللَّهُ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ.

إِقَامَةُ الصَّلَاةِ

عِنْدَمَا يُؤْمَنُ الْعَبْدُ حَقًّا بِالْغَيْبِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَيَأْتِي بَاحِثًا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَأْمُرُهُ رَبُّهُ :

﴿وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاركَعوا مَعَ الرّاكِعينَ۝أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ۝وَاستَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبيرَةٌ إِلّا عَلَى الخاشِعينَ۝الَّذينَ يَظُنّونَ أَنَّهُم مُلاقو رَبِّهِم وَأَنَّهُم إِلَيهِ راجِعونَ﴾ 

[البقرة: ٤٣-٤٦]

وَالصَّلَاةُ هُنَا بِمَفْهُومِهَا الشَّامِلِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ، وَاللُّجُوءُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْرُوضُ، فَنَحْنُ عِنْدَمَا نَكُونُ فِي ضِيقٍ فَإِنَّنَا نَفْزَعُ إِلَى اللَّهِ لِيُخْرِجَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.

كَذَلِكَ لَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ عَذَابِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، لِذَلِكَ نَلْجَأُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ.

الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

لِنَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ أَكْثَرَ، وَنُظْهِرُ إِصْرَارَنَا فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَإِنَّنَا نُنْفِقُ أَمْوَالَنَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَشْرِيعٍ مِنَّا، وَإِنَّمَا لِأَنَّ اللَّهَ أَرْشَدْنَا إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ كَوَسِيلَةٍ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَنفِقوا مِمّا رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالكافِرونَ هُمُ الظّالِمونَ﴾ 

[البقرة: ٢٥٤]

﴿وَأَنفِقوا مِن ما رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَريبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصّالِحينَ﴾ 

[المنافقون: ١٠]

الْوَلَاءُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

إِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَهَا يَلْجَأُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ بَاحِثًا عَمَّا يُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يَجِدُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ إِسْلَامًا تَامًّا، وَاَلَّذِي مَنْ ضِمْنَهِ أَنَّهُ يَتَخَلَّى عَنْ هُوِيَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَكْتَسِبُ هُوِيَّةً جَدِيدَةً هِيَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ، وَمُجْتَمَعًا جَدِيدًا هُوَ مُجْتَمَعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُوَحِّدُهُمْ الْإِيمَانُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أَلْوَانِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَزْمِنَتِهِمْ، وَهَذَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:

﴿وَالَّذينَ يُؤمِنونَ بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ﴾ 

[البقرة: ٤]

فَالْإِيمَانُ هُنَا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِنَا يَعْنِي انْتِمَائَنَا لِمُجْتَمَعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رُسُلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ، وَبِهَذَا تَذُوبُ الْهُوِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ.

الْيَقِينُ عَلَى الْآخِرَةِ

إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ هُوَ الْمُحَرِّكُ الْأَسَاسِيُّ لِلتَّقْوَى، وَلِذَلِكَ كَانَ لَابُدَّ مِنْ التَّوْكِيدِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ :

﴿وَبِالآخِرَةِ هُم يوقِنونَ﴾ 

[البقرة: ٤]

وَهُنَا يَبْرُزُ السُّؤَالُ هَلْ نَحْنُ مُوقِنِينَ بِالْآخِرَةِ فِعْلًا، وَمَا هِيَ صِفَاتُ الْمُوقِنِينَ بِالْآخِرَةِ؟

هَذَا السُّؤَالُ مُهِمٌّ جِدًّا فَأَنْتَ إِذَا سَأَلْتَ أَيَّ شَخْصٍ هَلْ هُوَ مُوقِنٌ بِالْآخِرَةِ، سَوْفَ يَقُولُ نَعَمْ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ، مَعَ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِهِ أَيْقَنْتَ أَنَّهُ مُوقِنٌ بِالْخُلُودِ فِي الدُّنْيَا نَظَرًا لِلْجَهْدِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُوَلِّيهِ لَهَا، لِذَلِكَ كَيْفَ أَتَأَكَّدُ أَنَّنِي فِعْلًا مُوقِنٌ بِالْآخِرَةِ، وَإِيمَانِي بِهَا لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ أَقُولُهَا؟

إِذَا فَتَشْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ نَجِدٌ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ تُحَدِّدُ لَنَا التَّجَلِّي الْعَمَلِيَّ لِلْيَقِينِ بِالْآخِرَةِ، إِنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنَا اصرِف عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا۝إِنَّها ساءَت مُستَقَرًّا وَمُقامًا﴾ 

[الفرقان: ٦٥-٦٦]

تَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ:

رَبَّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنَّمَ

أَيْ رَبَّنَا حَوْلْ عَنَّا، اكْشِفْ عَنَّا، ابْعُدْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ، فَصَرَفَ عَنْهُ تَأْتِي لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: 

﴿قالَ رَبِّ السِّجنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدعونَني إِلَيهِ وَإِلّا تَصرِف عَنّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجاهِلينَ۝فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنهُ كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ﴾ 

[يوسف: ٣٣-٣٤]

أَيْ حَوِّلْ عَنْهُ كَيَدَهُنَّ وَأَبْعِدْهُ عَنْهُ، لِذَلِكَ عِنْدَمَا نَتَأَمَّلُ الْآيَةَ :

﴿وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنَا اصرِف عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا۝إِنَّها ساءَت مُستَقَرًّا وَمُقامًا﴾

فَإِنَّنَا نَشْعُرُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتَّقُونَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، كَمَا وَقَعَ عَلَى يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْدُ النِّسْوَةِ، وَلِذَلِكَ هُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْعَذَابِ بِقَوْلِهِمْ

﴿ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا۝إِنَّها ساءَت مُستَقَرًّا وَمُقامًا﴾

فَهُمْ يَصِفُونَهُ، وَيَصِفُونَ النَّارَ وَصْفَ الْخَبِيرُ بِهَا، أَي أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ شِدَّةِ يَقِينِهِمْ بِالْآخِرَةِ يَعِيشُونَ فِي الدُّنْيَا وَكَأَنَّهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ عَذَابَهَا.

إِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ مَعَ الْآخِرَةِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْشَغِلَ عَنْهَا بِالدُّنْيَا، وَهُوَ فِعْلًا مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

إِذَا تَحَقَّقَتْ الصِّفَاتُ السَّابِقَةُ فِي أَحَدٍ، فَهُوَ فِعْلَا الْمُؤْمِنُ، الْمُهْتَدِي، الْفَائِزُ، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:

﴿أُولئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِم وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾ 

[البقرة: ٥]

جَعَلَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُمْ.

إِنَّ الصِّفَاتِ السَّابِقَةَ تُؤَدِّي إِلَى بَعْضِ الصِّفَاتِ الْحَتْمِيَّةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمُتَّقُونَ فِيمَا يَلِي أَبْرَزُهَا:

الصِّدْقُ

إِنَّ الْقَارِئَ لَكِتَابِ اللَّهِ، الْمُؤْمِنَ بِالْآخِرَةِ، سَوْفَ يُدْرِكُ أَنَّهُ لَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ سِوَى الصِّدْقِ، وَأَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ كُلِّهِ عَلَى الصِّدْقِ، فَالِامْتِحَانُ امْتِحَانُ صِدْقٍ مَعَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَمَّا يَقْرَأُ:

﴿وَإِذ أَخَذنا مِنَ النَّبِيّينَ ميثاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نوحٍ وَإِبراهيمَ وَموسى وَعيسَى ابنِ مَريَمَ وَأَخَذنا مِنهُم ميثاقًا غَليظًا۝لِيَسأَلَ الصّادِقينَ عَن صِدقِهِم وَأَعَدَّ لِلكافِرينَ عَذابًا أَليمًا﴾ 

[الأحزاب: ٧-٨]

وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصِّدْقِ :

﴿قالَ اللَّهُ هذا يَومُ يَنفَعُ الصّادِقينَ صِدقُهُم لَهُم جَنّاتٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ 

[المائدة: ١١٩]

لِذَلِكَ يَتَّخَذُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الصِّدْقِ صِفَةً مُلَازِمَةً لَهُ يَنْتَظِرُ جَزَاءَهَا عِنْدَ اللَّهِ.

الصَّبْرُ

الصِّدْقُ مَعَ اللَّهِ يَعْنِي التَّجَرُّدَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَسْلِيمَ النَّفْسِ لِلَّهِ، وَهَذَا لَنْ يَتِمَّ بِسُهُولَةٍ فَهُنَاكَ عَقَبَاتٌ جَمَّةٌ تَنْتَظِرُ الْمُسْلِمَ، هَذِهِ الْعَقَبَاتُ وَالِابْتِلَاءَاتُ تَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ بِالْآخِرَةِ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَهُونُ فِي مُقَابِلِ أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ لَا يَجْزَعُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَسْخَطُ، بَلْ يَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ رَاجِيًا مَعِيَّةَ اللَّهِ، فَاَللَّهُ حَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصَّبْرِ قَائِلًا:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ﴾ 

[البقرة: ١٥٣]

وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَمَاذَا يُنْقِصُهُ؟

لِذَلِكَ صِفَةُ الصَّبْرِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْمُؤْمِنِ، وَهِيَ نَتِيجَةٌ حَتْمِيَّةٌ لِلْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِكِتَابِ اللَّهِ.

الْقُنُوتُ لِلَّهِ

لَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرَ سَوْفَ يَدْفَعُ صَاحِبُهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، عِبَادَةً شَامِلَةً، بِحَيْثُ يَقُومُ بِجَمِيعِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْقُنُوتُ لِلَّهِ كَمَا نَقَلَ الزُّبَيْدِيُّ فِي التَّاجِ:

قَالَ ابْن سَيّده: والقَانِتُ: القائِمُ بجَمِيعِ أَمرِ الله تَعَالَى. وَقيل: القَانِتُ: العَابِدُ، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (سُورَة التَّحْرِيم، الْآيَة: 12) أَي من العَابِدِينَ.

[مرتضى الزبيدي ,تاج العروس ,5/46]

وَلِذَلِكَ نَجِدُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَصِفُ الْمُتَّقِينَ بِالْقَانِتِينَ فِي قَوْلِهِ:

﴿الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنفِقينَ وَالمُستَغفِرينَ بِالأَسحارِ﴾ 

[آل عمران: ١٧]

تَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللَّهِ

مَنْ خَافَ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ سَوْفَ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:

﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِن تَقوَى القُلوبِ﴾ 

[الحج: ٣٢]

وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ فَإِنَّهُ سَيَعْلَمُ عَظَمَةَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَعَظَمَةَ عِبَادَتِهِ وَاَلَّتِي خَلَقَ الْكَوْنَ كُلَّهُ مِنْ أَجْلِهَا، فَيُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللَّهِ لِذَلِكَ.

الْعَدْلُ

الصِّدْقُ مَعَ اللَّهِ، وَالصَّبْرُ، وَالْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، كُلُّهَا صِفَاتٌ تُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَيَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ 

[النحل: ٩٠]

كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سَوْفَ يَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَنْ يُنْجِيَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ غَيْرُ الصِّدْقِ فِي الدُّنْيَا مَعَ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِتَحَرِّي الْعَدْلِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَو عَلى أَنفُسِكُم أَوِ الوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقيرًا فَاللَّهُ أَولى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أَن تَعدِلوا وَإِن تَلووا أَو تُعرِضوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا﴾ 

[النساء: ١٣٥]

كَمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ مَعَ مَنْ يَكْرَهُ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ:

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ﴾ 

[المائدة: ٨]

وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ الْمُطْلَقُ فِي الْمُؤْمِنِ، وَهِيَ صِفَةٌ لَا نَجِدُهَا فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ، حَيْثُ أَنَّ مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا مِنْ الْكُفَّارِ، إِنَّمَا يَعْدِلُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُ أَوْ لِمُجْتَمَعِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ ذَاتُهِ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يُحَاوِلُونَ تَطْبِيقَ الْعَدْلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ يَظْلِمُونَ غَيْرَهُمْ.

الصَّفْحُ وَالْعَفْوُ وَكَظِمُ الْغَيْظِ

رَأَيْنَا فِي خُطُورَةِ الْمَعْصِيَةِ كَيْفَ أَنَّ هُمَّ الْمُسْلِمِ دَوْمًا هُوَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَا فَقَالَ:

﴿قُل لِلَّذينَ آمَنوا يَغفِروا لِلَّذينَ لا يَرجونَ أَيّامَ اللَّهِ لِيَجزِيَ قَومًا بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ 

[الجاثية: ١٤]

وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْمَغْفِرَةَ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿ وَليَعفوا وَليَصفَحوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ 

[النور: ٢٢]

التَّوْبَةُ

مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا، وَخَطَاءً بِطَبِيعَتِهِ، وَلِكَيْ يُكَفِّرَ عَنْ ذُنُوبِهِ شَرَعَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ رَحْمَةً بِهِ، وَاَلَّتِي مِنْ دُونِهَا كَانَ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ الْأَبَدِيُّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.

لِذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ الْمُؤْمِنُ، وَيَتُوبُ إِلَى اللَّهِ دَوْمًا، وَلَا يُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:

﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾ 

[آل عمران: ١٣٥]

الْخاتِمَّةُ

إِنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ الصِّفَاتِ السَّابِقَةَ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّ مَنْ تَحَقَّقَتَ فِيهِ جَازَ وَصْفُهُ بِالْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الْمِثَالِيِّ، وَهَذَا بِالضَّبْطِ هُوَ تَزْكِيَةُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ:

﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ﴾ 

[آل عمران: ١٦٤]

وَقَدْ تَحَقَّقَتْ، فَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ مُجْتَمَعُ الصَّحَابَةِ مُجْتَمِعًا مِثَالِيًّا بِمَا فِي الْكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى، فَنِسْبَةُ الْجَرِيمَةِ وَصَلَتْ إِلَى صَفَرٍ فِي الْمِئَةِ، وَالنِّزَاعَاتُ بَيْنَهُمْ شِبْهُ مَعْدُومَةٍ تَمَامًا، أَيْ أَنَّنَا كُنَّا أَمَامَ حَالَةٍ فَرِيدَةٍ حَيْثُ النَّاسُ لَا يَتَحَاسَدُونَ وَلَا يَتَبَاغَضُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ وَلَا يَخُونُونَ وَلَا يَقْتَرِفُونَ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْجَرَائِمِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ الشَّعْبِ الْمِثَالِيِّ الَّذِي لَمْ تُعْرَفْ الْبَشَرِيَّةُ لَهُ نَظِيرٌ إِلَى الْيَوْمِ.

تحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-