نَظَرًا لِانْتِشَارِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّنَا فِي اللَّاشِعُورِ اعْتَدْنَا عَلَيْهَا، لِدَرَجَةِ أَنَّهَا صَارَتْ مَأْلُوفَةً لِحَدِّ أَنَّنَا لَا نُنْكِرُهَا غَالِبًا، فَمَثَلًا الْكَذِبُ، تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ الْكَبِيرَةُ، نَظَرًا لِتَفَشِّيهِ بَيْنَ النَّاسِ، أَصْبَحَ أَمْرًا عَادِيًّا جِدًّا، لَا نُنْكِرُهُ فِي الْغَالِبِ، إِلَّا إِذَا كُنَّا ضَحِيَّتَهُ، لِذَلِكَ نَحْنُ نُعَانِي مِنْ مُشْكِلَةٍ كَبِيرَةٍ جِدًّا مُتَمَثِّلَةٍ فِي سُوءِ تَقْدِيرِ خُطُورَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي سَوْفَ أُنَاقِشُهَا مِنْ خِلَالِ الْمَحَاوِرِ التَّالِيَةِ:
- تَعْرِيفُ الْمَعْصِيَةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا؛
- خُطُورَةُ الْمَعْصِيَةِ في الْإِسْلَامِ؛
- أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي؛
- التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ؛
- مَتَى لَا تَكُونُ الْمَعْصِيَةُ كُفْرًا؛
- كَيْفَ نَحْكُمُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ؛
- شُبُهَاتٌ حَوْلَ خُطُورَةِ الْمَعْصِيَةِ؛
- تَارِيخُ مَنْزِلَةِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْأُمَّةِ وَبَعْضُ نَتَائِجِهِ.
تَعْرِيفُ الْمَعْصِيَةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
الْمَعْصِيَةُ لُغَةً خِلَافُ الطَّاعَةِ، يَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ:
والعصيان: خلاف الطاعة. وقد عَصاهُ يَعْصيهِ عَصْياً ومَعْصِيَةً ; فهو عاصٍ وعَصِيٌّ.
[الجوهري، أبو نصر ,الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ,6/2429]
وَيَقُولُ الزُّبَيْدِي
عصي: ي الِعصْيانُ، بالكسْر: خِلافُ الطَّاعَةِ. يقالُ عَصاهُ يَعْصِيه عَصْياً، بالفَتْح، وعِصْياناً ومَعْصِيَةً، فَهُوَ عاصٍ؛ خَرَجَ عَن طاعَتِه. وعَصَيِ العَبْدُ رَبَّه: خالفَ أَمْرَه. وعَاصاهُ مُعاصاةً فَهُوَ عاصٍ وعَصِيُّ، كعَنِيً: لم يُطِعْهُ.
[مرتضى الزبيدي ,تاج العروس ,39/58]
وَاصْطِلَاحًا هِيَ عَدَمُ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَكِلَا ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
لِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْصِيَةِ عِلْمُ الْعَاصِي بِالْأَمْرِ، أَوْ بِالنَّهْيِ، فَإِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ، وَكَانَ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ، لَا يُسَمَّى عَاصِيًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا غَيْرُ الشِّرْكِ، فَمَنْ صَرَفَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، سَواءٌ جَهِلَ أَنَّها عِبَادَةٌ، أَوْ عَلِمَ بِها، كَمَا سَوْفَ نُبَيِّنُهُ فِي بَحْثٍ آخَرَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَوْلَ مَسْأَلَةِ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ فِي الشِّرْكِ.
كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَرْءُ مُكْرَهًا، بِحَيْثُ يَفْقِدُ حُرِّيَّةَ الْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا إِذَا خَالَفَ أَمْرَ الله تَحْتَ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الِاسْتِطَاعَةُ.
كَذَلِكَ يَخْرُجُ الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، مِنْ الْمَعْصِيَةِ، لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ فِي الْفِعْلِ، وَلِكَوْنِ الْأَعْمَالِ تُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِرَادَةُ.
إِذَنْ الْمَعْصِيَةُ هِيَ أَنْ يَعْصِيَ الْمَرْءُ عَمْدًا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ.
خُطُورَةُ الْمَعْصِيَةِ في الْإِسْلَامِ
سَبَقَ وَذَكَرْتُ أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ الطَّاعَةُ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْكُفْرَ هُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ، وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدودَهُ يُدخِلهُ نارًا خالِدًا فيها وَلَهُ عَذابٌ مُهينٌ﴾
[النساء: ١٤]
وقوله :
﴿إِلّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها أَبَدًا﴾
[الجن: ٢٣]
وَمِنْهَا أَيْضًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعُصَاةِ مِنْ عُقُوبَةٍ فَوْرِيَّةٍ، مِثْلَ مَا أَصَابَ أَصْحَابَ السَّبْتِ:
﴿وَلَقَد عَلِمتُمُ الَّذينَ اعتَدَوا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كونوا قِرَدَةً خاسِئينَ﴾
[البقرة: ٦٥]
لِذَلِكَ فَالْأَصْلُ الَّذِي يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ، هُوَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ فِي الْأَصْلِ، وَمَا وَرَدَ مِنْهَا دُونَ الْكُفْرِ، فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَيْسَ الْأَصْلُ.
لِلْأَسَفِ أَغْلَبُنَا الْيَوْمَ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مِنْ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرَى أَيَّ مَعْصِيَةٍ كُفْرًا، إِلَّا فِي حَالَاتٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ، وَاَلَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
إِنَّ الْقَارِئَ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ الْمُتَوَرَاثَةِ، – وَهُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِفَهْمِ الْقُرْآنِ فَهْمًا صَحِيحًا، كَمَا سَبَقَ وَشَرَحْتُ – يَجِدُ بِوُضُوحٍ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ فِي أَنْ يَضْرِبَ اللَّهُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، وَسَبَبٌ في الْكُفْرِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ ما ثُقِفوا إِلّا بِحَبلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبلٍ مِنَ النّاسِ وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُم كانوا يَكفُرونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقتُلونَ الأَنبِياءَ بِغَيرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدونَ﴾
[آل عمران: ١١٢]
فَسَبَبُ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعْصِيَةُ اللَّهِ، الْمُتَمَثِّلَةُ فِي تَعَدِّي حُدُودِهِ، فَحينَ يَكْفُرُ النَّاسُ، يَسْلُبُهُمْ اللَّهُ النَّصْرَ وَالتَّمْكِينَ وَيَضْرِبُ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ.
كَذَلِكَ السُّكُوتُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهَا، هُوَ مَعْصِيَةٌ بِحَدِّ ذَاتِهِ مُوجِبٌ لِلَّعْنَّةِ، يَقُولُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ:
﴿لُعِنَ الَّذينَ كَفَروا مِن بَني إِسرائيلَ عَلى لِسانِ داوودَ وَعيسَى ابنِ مَريَمَ ذلِكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدونَكانوا لا يَتَناهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلونَ﴾
[المائدة: ٧٨-٧٩]
لِذَلِكَ لَا أَشْأَمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا أَخْطَرَ، فَبِسَبَبِهَا كَفَرَ إِبْلِيسُ، وَخَلَدَ فِي النَّارِ، وَبِسَبَبِهَا يَلْعَنُ اللَّهُ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَُ أَيُّهَا الْفَاضِلُ !
دَرَجَاتُ خُطُورَةِ الْمَعْصِيَةِ
ابْتِدَاءً إِنَّ الْمَعْصِيَةَ أَمْرٌ غَايَةٌ فِي الْخُطُورَةِ، لِأَنَّهَا مَعْصِيَةُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَعَظَمَةُ الْمَعْصِيَةِ لَا تَكْمُنُ فِي الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا فِي عَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَمِنْ ثُمَّ فَإِنَّنَا قَدْ نَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ الْمَعَاصِي عَظِيمَةٌ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَعْصِيَةٌ لِلْعَظِيمِ سُبْحَانَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعَاصِي تَتَفاوَتُ فِي عَظَمَتِهَا لِأَنَّ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، لَهُ تَأْثِيرٌ فِي دَرَجَةِ عَظَمَةِ الْمَعْصِيَةِ، فَمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَجْهُودٍ لِكَيْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ، لَيْسَ كَمَنْ تُحَاوِطُهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لَا يَسْتَطِيعُ تَفَادِيَهَا .
فَمَثَلًا إِذَا اعْتَبَرْنَا أَنَّ هُنَاكَ شَخْصٌ مَا يَعِيشُ فِي الصَّحْرَاءِ، لِكَيْ يَنْظُرَ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، يَحْتَاجُ أَنْ يَقْطَعَ الْمَسَافَاتِ الشَّاسِعَةَ، هَذَا الشَّخْصُ لَا يَسْتَوِي هُوَ، وَمَنْ يَعِيشُ أَصْلًا فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتُ مُنْتَشِرَةٌ حَوْلَ بَيْتِهِ، لَا يَبْذُلُ مَجْهُودًا يُذْكَرُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا.
لِذَلِكَ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنّْ قَسَّمَ الْمَعَاصِي مِنْ حَيْثُ الْخُطُورَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَبَائِرٌ، وَلَمَمٌ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿الَّذينَ يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإِثمِ وَالفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغفِرَةِ هُوَ أَعلَمُ بِكُم إِذ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَإِذ أَنتُم أَجِنَّةٌ في بُطونِ أُمَّهاتِكُم فَلا تُزَكّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعلَمُ بِمَنِ اتَّقى﴾
[النجم: ٣٢]
فَالْكَبَائِرُ هِيَ الْمَعَاصِي الَّتِي يُمْكِنُ اجْتِنَابُهَا، وَاللَّمَمُ هِيَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ اجْتِنَابَهَا، فَقَوْلُهُ :
يَجتَنِبونَ كَبائِرَ
دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَادِرٌ عَلَى اجْتِنَابِهَا، وَقَوْلُهُ :
إِلَّا اللَّمَمَ
يَعْنِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ اجْتِنَابُهَا، فَكَلِمَةُ اللَّمَمِ تَعْنِي الِاجْتِمَاعَ، يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ :
(لَمَّ) اللَّامُ وَالْمِيمُ أَصْلُهُ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعٍ وَمُقَارَبَةٍ وَمُضَامَّةٍ. يُقَالُ: لَمَمْتُ شَعَثَهُ، إِذَا ضَمَمْتَ مَا كَانَ مِنْ حَالِهِ مُتَشَعِّثًا مُنْتَشِرًا. وَيُقَالُ: صَخْرَةٌ مُلَمْلَمَةً، أَيْ صُلْبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، وَمَلْمُومَةٌ أَيْضًا.
[ابن فارس، مقاييس اللغة، ١٩٧/٥]
فَاللَّمَمُ هِيَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَجْتَمِعُ بِالْمَرْءِ، وَتُحِيطُهُ، بِحَيْثُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّنَصُّلُ مِنْهَا، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا لَهُ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ الَّتِي تَحْتَاجُ جُهْدًا مِنْهُ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِن تَجتَنِبوا كَبائِرَ ما تُنهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَنُدخِلكُم مُدخَلًا كَريمًا﴾
[النساء: ٣١]
هَذَا هُوَ التَّقْسِيمُ لِلْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ الْخُطُورَةِ الْعَادِلُ، الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، أَمَّا تَقْسِيمُهُمْ الْمَعَاصِي إِلَى صَغَائِرَ، وَكَبَائِرَ، فَجَرِيمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْصِيَةٌ صَغِيرَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَعْصِيَتُهُ كُلُّهَا عَظِيمَةٌ، وَعَظِيمَةٌ جِدًّا، حَتَّى اللَّمَمُ فَهُوَ عَظِيمٌ جِدًّا، لَمْ يَعِدْ اللَّهُ بِمَغْفِرَتِهِ إِلَّا لِمَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، لِذَلِكَ تَقْسِيمُ الْمَعَاصِي إِلَى صَغَائِرَ، وَكَبَائِرَ، نَابِعٍ مِنْ الْجَهْلِ بِقَدْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:
﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَميعًا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيّاتٌ بِيَمينِهِ سُبحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ﴾
[الزمر: ٦٧]
سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يَقُولُونَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةٌ، وَأَيُّهُمْ يَقْبَلُ أَنْ تُعْصَى أَوَامِرُهُ، أو يُسْتَهانُ بِها ؟
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
لَقَدِ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَوُضِعَ الكِتابُ فَتَرَى المُجرِمينَ مُشفِقينَ مِمّا فيهِ وَيَقولونَ يا وَيلَتَنا مالِ هذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلّا أَحصاها وَوَجَدوا ما عَمِلوا حاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾
[الكهف: ٤٩]
فَقَالُوا “صَغِيرَةً” الْمَقْصُودُ بِهَا مَعْصِيَةٌ صَغِيرَةٌ، وَ”كَبِيرَةً” مَقْصُودٌ بِهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، وَهَذَا تَقَوُّلٌ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَالْكِتَابُ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ، صَغِيرُهَا، وَكَبِيرُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ خَيْرًا، أَمْ شَرًّا.
ثَانِيًا الْمُتَكَلِّمُ فِي الْآيَةِ هُمْ الْمُجْرِمُونَ، فَإِنْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِصَغِيرَةٍ، وَكَبِيرَةٍ، مَعَاصِيهِمْ، لَمْ تَكُنْ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ تَقْسِيمَهِمْ هَذَا، بَلْ كَانَ فِيهَا أَنَّ الْمُجْرِمِينَ هُمْ الَّذِينَ يُقَسِمُونَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ إِلَى صَغِيرَةٍ، وَكَبِيرَةٍ، وَذَلِكَ لِاسْتِخْفَافِهِمْ بِبَعْضِ الْمَعَاصِي، جَهْلًا مِنْهُمْ بِقَدْرِ اللَّهِ، وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ.
التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلُطْفِهِ، وَكَرَمِهِ، أَنَّ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، لَيَّلَا يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ:
﴿قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾
[الزمر: ٥٣]
﴿أَلَم يَعلَموا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَيَأخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾
[التوبة: ١٠٤]
فَمَهْمَا فَعَلَ الْعَبْدُ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ إِذَا تَابَ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا لِمَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ.
وَلِكَيْ نُدْرِكَ جُزْءًا مِنْ عَظِيمِ رَحْمَةِ اللَّهِ حَيْثُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ حَقِيقَةَ أَنَّ اللَّهَ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ مَنْ يَرْزُقُهُ، وَهُوَ مَنْ أَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ كُلَّهَا، فَكَيْفَ يَعْصِي الْعَبْدُ رَبَّهُ بَعْدَ كُلِّ هَذَا؟
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ مِنْ رَحْمَتِهِ، إِذَا تَابَ الْعَبْدُ، تَابَ عَلَيْهِ، رَغْمَ كَوْنِ الْعَبْدِ ظَالِمٌ، كَفَّارٌ، بِمَعْصِيَتِهِ لِلَّهِ.
إِنَّ فَتْحَ بَابِ التَّوْبَةِ الْهَدَفُ مِنْهُ أَنْ يَتُوبَ الْمُسِيءُ، لَا أَنْ يَتَمَادَى فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلِذَلِكَ فَاَللَّهُ أَخْفَى تَوْبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، فَلَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ مَتَى يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بَعْدَ عُقُوبَةٍ يَنَالُهَا الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
هَذِهِ الْعُقُوبَةُ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ شُؤْمَ الْمَعْصِيَةِ، وَلِيَتَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي، وَلِكَيْ لَا يُتَصَوَّرَ أَنَّ فَتْحَ بَابِ التَّوْبَةِ ذَرِيعَةٌ لِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي بِحُجَّةِ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَتُوبَ الْعِبْدُ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، كَمَا يَتَصَوَّرُ أَغْلَبُ النَّاسِ الْيَوْمَ.
مِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ قَدْ لَا تَكُونُ فَوْرِيَّةً، وَقَدْ تَسْبِقُهَا عُقُوبَةُ قَوْلُهِ تَعَالَى، فِي شَأْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذينَ خُلِّفوا حَتّى إِذا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَت وَضاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنّوا أَن لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾
[التوبة: ١١٨]
فَاللَّهُ يَصِفُ حَالَهُمْ بِأَنَّهُمْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، بَعْدَ أَنْ هَجَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ خَمْسِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ تَابُوا قَبْلَ مَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَقُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لِذَلِكَ تَصَوُّرُ النَّاسِ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَتُوبَ الْمَرْءُ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَصَوُّرٌ شَيْطَانِيٌّ نَابِعٌ مِنْ أَمْنِ مَكْرِ اللَّهِ، جَعَلَهُمْ يَتَمَادَوْنَ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَسَوْفَ نَرْجِعُ إِلَى مَوْضُوعِ التَّوْبَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَقَالَاتِ الْقَادِمَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
مَتَى لَا تَكُونُ الْمَعْصِيَةُ كُفْرًا
الإسلام هُوَ عَقْدٌ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ نَقْضٌ لِعَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْكُفْرُ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ، بِحَيْثُ أَنَّ مَنْ يَتُوبُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ يَبْقَى مُسْلِمًا كَمَا كَانَ قَبْلَ مَعْصِيَتِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَالَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالكاظِمينَ الغَيظَ وَالعافينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَوَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَأُولئِكَ جَزاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم وَجَنّاتٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها وَنِعمَ أَجرُ العامِلينَ﴾
[آل عمران: ١٣٣-١٣٦]
فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَخْبَرْنَا عَنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، فَقَالَ أَنَّ مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا، وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهَا مُطْلَقًا.
هُنَا قَدْ تَسْأَلُ كَيْفَ نَجْمَعُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعْصِيَةِ خَرْقٌ لِعَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَقْتَ مُمَارَسَةِ الْإِنْسَانِ لَهَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ قَطْعًا، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ إِذَا تَابَ مِنْهَا، لَا يَكُونُ تَائِبًا مِنْ كُفْرٍ، وَإِنَّمَا مُسْلِمٌ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَتَابَ مِنْهَا؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ رَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، حَيْثُ لَا يُلْغِي عَقْدَ الْإِسْلَامِ مَعَ ابْنِ آدَمَ، مَا دَامَ الْعَبْدُ يَسْتَغْفِرُ، وَيَتُوبُ، وَإِلَيْكَ مِثَالٌ أَوْضَحُ لَكَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ :
لِنَفْتَرِضَ أَنَّكَ تَعْمَلُ سَائِقًا عِنْدَ زَيْدٍ، وَأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ زَيْدٍ فِيهِ أَنْ لَا تَتَجَاوَزَ سُرْعَةَ 100 كَمْ فِي السَّاعَةِ، وَذَاتَ يَوْمٍ قَرَّرْتَ أَنَّكَ سَوْفَ تَتَجَاوَزُ هَذِهِ السُّرْعَةَ، فَتَسِيرُ بِسُرْعَةِ 150 كَمْ فِي السَّاعَةِ مَثَلًا.
أَنْتَ فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي تَعَدَّيْتَ فِيهَا سُرْعَةَ 100 كَمْ فِي السَّاعَةِ غَيْرُ عَامِلٍ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ زَيْدٍ، لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ أَنْ لَا تَتَجَاوَزَ هَذِهِ السُّرْعَةَ، وَأَنْتَ قَدْ تَجَاوَزتَهَا.
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، أَنْتَ فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي تُمَارِسُ فِيهَا الْمَعْصِيَةَ لَسْتَ عَامِلًا بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَبِالتَّالِي لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَعَلَى هَذَا دَلَّ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
[البخاري ,صحيح البخاري ,3/136]
وَلَوْ مُتَّ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ تَحَقَّقَ فِيكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
7454 – حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: ” أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا “
[البخاري ,صحيح البخاري ,9/135]
إِذَا رَجَعْنَا لِمِثَالِكَ مَعَ زَيْدٍ، وَنَفْتَرِضُ أَنَّكَ نَدِمْتَ عَلَى تَجَاوُزِ السُّرْعَةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَأَتَيْتَ إِلَى زَيْدٍ طَالِبًا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ.
زَيْدٌ هَذَا رَقَّ لِحَالِكَ، وَعَفَى عَنْكَ دُونَ أَنْ يَفْصِلَكَ مِنْ عَمَلِكَ، وَيُرْجِعُكَ إِلَيْهِ، فَقَطْ قَالَ لَكَ لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا، وَوَاصِلْ عَمَلَكَ.
أَنْتَ هُنَا بَقِيتَ سَائِقًا كَمَا كُنْتَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِكَ نَقَضْتَ الْعَقْدَ الَّذِي بَيْنَكُمَا، ثُمَّ رَجَعْتَ.
هَذَا الْمِثَالُ لِلتَّقْرِيبِ فَقَطْ، لِأَنَّكَ لَا تَغِيبُ عَنْ عِلْمِ الله ِ حِينَ تَعْصِيهِ، بَيْنَمَا حِينَمَا كُنْتَ تَقُودُ السَّيَّارَةَ فَوْقَ السُّرْعَةِ الْمُحَدَّدَةِ، زَيْدٌ كَانَ غَائِبًا، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لَفَصْلَكَ مِنَ الْعَمَلِ فَوْرًا، وَلَمَا أَعْطَاكَ فُرْصَةَ أَنْ تَنْدَمَ، وَتَرْجِعَ تَطْلُبُ الْعَفْوَ، وَالصَّفْحَ، وَلِلَّهِ الْمِثْلُ الأَعْلَى بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِكَ لَا تَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَقْتِ مُمَارَسَتِكَ لِلْمَعْصِيَةِ، وَتَعْصِيهِ عَلَى أَرْضِهِ، وَبِنِعَمِهِ، بِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَتَحَ لَكَ بَابَ التَّوْبَةِ، لَيْسَ مَرَّةً، وَلَا اثْنَتَيْنِ، وَلَا ثَلَاثَةً، بَلْ مَا دُمتَ حَيًّا، وَمَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، يَظَلُّ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحًا، فَمَتَى تَابَ الْمَرْءُ كَانَ مُسْلِمًا وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ وَتَابَ مِنْهَا، وَهَذَا مِنْ عَظِيمِ رَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ
لِذَلِكَ أَقُولُ إِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ كُفْرًا بِشَرْطِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَهِيَ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ.
كَيْفَ نَحْكُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ؟
إِنَّ أَكْثَرَ مَنْ أَدْرَكَ حَقِيقَةَ الْمَعْصِيَةِ، يَغْلِطُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيَحْكُمُ بِكُفْرِ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي أَيِّ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ كَبِيرٌ، يَنْجُمُ عَنْهُ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَشَتُّتُهُمْ، فَلَا أَحَدَ يَسْلَمُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ:
إِنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْإِسْلَامِ يَنْبَغِي أَنْ تَنْبَنِيَ عَلَى الْيَقِينِ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، لِذَلِكَ إِذَا كَانَ عِنْدَنَا شَخْصٌ مُسْلِمٌ يَقِينًا، ثُمَّ وَقَعَ هَذَا الْمُسْلِمُ فِي مَعْصِيَةٍ مَا، فَإِنَّنَا نُمَيِّزُ حَالَتَيْنِ:
إِذَا مَاتَ وَهُوَ يُمَارِسُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، فَقَدْ مَاتَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، فَلَا نَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَلَا نُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِ .
أَمَّا إِذَا أَمْهَلَهُ اللَّهُ حَتَّى انْتَهَى مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَبَقِيَ حَيًّا، فَإِنَّنَا نَحْكُمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ إِعْلَانُهَا لِلنَّاسِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ يَبْقَى بِالْإِسْلَامِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ كَانَ مُسْلِمًا قَطْعًا قَبْلَ مَعْصِيَتِهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، أَوْ أَشَدَّ، كَمَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَنْ يَتُوبَ، أَوْ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ مَبْنِيٌّ أَصْلًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مُدَاوِمٌ عَلَيْهِ، رَاضٍ بِهِ.
لِذَلِكَ فَتَكْفِيرُ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ هُوَ جَهْلٌ، وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالظَّنِّ، وَتَرْكٌ لِلْيَقِينِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
شُبُهَاتٌ حَوْلَ خُطُورَةِ الْمَعْصِيَةِ
لَقَدْ أَخَذَ إِبْلِيسُ عَلَى عَاتِقِهِ مُهِمَّةَ إِغْوَاءِ الْبَشَرِ حَيْثُ قَالَ:
﴿قالَ فَبِما أَغوَيتَني لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شاكِرينَ﴾
[الأعراف: ١٦-١٧]
فَكَانَ مِنْ وَسِيلَتِهِ فِي ذَلِكَ، حَثُّ النَّاسِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ خُطُورَتِهَا، فَهُوَ يُوحِي إِلَى أَوْلِيَائِهِ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْخَطِيرِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَوْفَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ تُبْنَا إِلَى اللَّهِ، فَيَغْفُلُونَ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَيَتَجَرَّأُونَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
وَلَقَدْ وَجَدَ إِبْلِيسُ أَعْوَانًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، يَقُومُونَ بِالْمُهِمَّةِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، حَيْثُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا شُبُهَاتٍ، الْغَرَضُ مِنْهَا تَشْجِيعُ النَّاسِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ قَدْرِهَا، وَفِيمَا يَلِي نِقَاشُ أَهَمِّهَا:
آيَاتُ التَّرْغِيبِ
يُحَرِفُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ آيَاتِ التَّرْغِيبِ عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ، لِيُوهِمُوا السَّامِعَ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِنْ أَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا﴾
[النساء: ٤٨]
فَهَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُحَدِّدْ شُرُوطَ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ، فَهِيَ إِذَنْ آيَةٌ عَامَّةٌ، مِثْلُهَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾
[الزمر: ٥٣]
فَاللَّهُ فِعْلًا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وَلَكِنْ لِمَنْ ؟ وَبِأَيِّ شُرُوطٍ ؟
الشَّرْطُ هُوَ التَّوْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتوبونَ مِن قَريبٍ فَأُولئِكَ يَتوبُ اللَّهُ عَلَيهِم وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا﴾
[النساء: ١٧]
أَمَّا مَنْ لَمْ يَتُبْ حَتَّى حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَحُكْمُهُ عَدَمُ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمَصِيرُهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ:
﴿وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذينَ يَعمَلونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قالَ إِنّي تُبتُ الآنَ وَلَا الَّذينَ يَموتونَ وَهُم كُفّارٌ أُولئِكَ أَعتَدنا لَهُم عَذابًا أَليمًا﴾
[النساء: ١٨]
وَلِكَيْ لَا يَقُولَ قَائِلٌ، نَعَمْ، لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، نَقُولُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ أَنَّهُ لَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، لِذَلِكَ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا مَصِيرُهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، الْأَبَدِيُّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
لِذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا﴾
[النساء: ٤٨]
وَتَجَاهُلُ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، هُوَ إِيمَانٌ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، وَكُفْرٌ بِبَعْضِ، الْهَدَفُ مِنْهُ تَبْرِيرُ الْإِصْرَارِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَلَقَد جِئناهُم بِكِتابٍ فَصَّلناهُ عَلى عِلمٍ هُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَهَل يَنظُرونَ إِلّا تَأويلَهُ يَومَ يَأتي تَأويلُهُ يَقولُ الَّذينَ نَسوهُ مِن قَبلُ قَد جاءَت رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ فَهَل لَنا مِن شُفَعاءَ فَيَشفَعوا لَنا أَو نُرَدُّ فَنَعمَلَ غَيرَ الَّذي كُنّا نَعمَلُ قَد خَسِروا أَنفُسَهُم وَضَلَّ عَنهُم ما كانوا يَفتَرونَ﴾
[الأعراف: ٥٢-٥٣]
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَنْ نَكُونَ مِنْهُمْ .
عَدْلُ اللَّهِ لَا يُنَافِي رَحْمَتَهُ
يَتَّخِذُ كَثِيرٌ مِنَ الْغَافِلِينَ كَوْنَ اللَّهِ رَحْمَنٌ، رَحِيمٌ، ذَرِيعَةً لِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، بِحُجَّةِ أَنَّ اللَّهَ سَيَرْحَمُهُ، فَهُوَ رَحْمَنٌ، رَحِيمٌ.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ فِعْلًا، وَلَا يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ كَمَا يَزْعُمُونَ، فَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِعْلًا بِأَنَّ اللَّهَ رَحْمَنٌ رَحِيمٌ لَسَعَوْا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَبَذَلُوا الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ فِي سَبِيلِ نَيْلِهَا، كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَنِ الصَّادِقِينَ فِي رَجَاءِ رَحْمَتِهِ:
﴿إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرجونَ رَحمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾
[البقرة: ٢١٨]
أَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِذَلِكَ لَمْ يَطْلُبُوهَا، كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:
﴿وَالَّذينَ كَفَروا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسوا مِن رَحمَتي وَأُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾
[العنكبوت: ٢٣]
وَلَوْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَا تَقُولُهُ أَلْسِنَتُهُمْ، إِذَا كَانَ حَالُهُمْ الصَّرِيحُ يُخَالِفُهُ.
إِنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ، وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيٍّ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَهَا لِلصَّادِقِينَ فَقَطْ، حَيْثُ قَالَ:
﴿وَاكتُب لَنا في هذِهِ الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنّا هُدنا إِلَيكَ قالَ عَذابي أُصيبُ بِهِ مَن أَشاءُ وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُم بِآياتِنا يُؤمِنونَالَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم فَالَّذينَ آمَنوا بِهِ وَعَزَّروهُ وَنَصَروهُ وَاتَّبَعُوا النّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾
[الأعراف: ١٥٦-١٥٧]
أَمَّا الْكَاذِبُونَ الضَّالُّونَ، الْمُجْرِمُونَ، فَرَبُّنَا يُعَامِلُهُمْ بِعَدْلِهِ، وَسُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُطِيعَ كَالْعَاصِي
﴿أَفَنَجعَلُ المُسلِمينَ كَالمُجرِمينَما لَكُم كَيفَ تَحكُمونَ﴾
[القلم: ٣٥-٣٦]
﴿أَم حَسِبَ الَّذينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحياهُم وَمَماتُهُم ساءَ ما يَحكُمونَ﴾
[الجاثية: ٢١]
حَاشَاهُ سُبْحَانَهُ، فَذَلِكَ ضَيَاعٌ لِلْعَدْلِ، وَالْحَقِّ، وَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِي أَوْرَدَهُمْ النَّارَ:
﴿وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفَروا فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَروا مِنَ النّارِأَم نَجعَلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالمُفسِدينَ فِي الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّارِكِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلبابِ﴾
[ص: ٢٧-٢٩]
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
سَبَقَ وَذَكَرْتُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَقَالِ “كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ” أَنَّ الْقُرْآنَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ هِدَايَةً, وَيَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَإِن طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنينَ اقتَتَلوا فَأَصلِحوا بَينَهُما فَإِن بَغَت إِحداهُما عَلَى الأُخرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبغي حَتّى تَفيءَ إِلى أَمرِ اللَّهِ فَإِن فاءَت فَأَصلِحوا بَينَهُما بِالعَدلِ وَأَقسِطوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾
[الحجرات: ٩]
فَقَدِ اتَّخَذَ هَذِهِ الْآيَةَ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ لِيُبَرِّرُوا بِهَا كُفْرَهُمْ، فَقَدْ قَالُوا أَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهَاتَانِ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَقْتَتِلُونَ، أَيْ يُمَارِسُونَ مَعْصِيَةَ الْقَتْلِ، وَمُصِرِّينَ عَلَيْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ اللَّهُ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ، إِذًا الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا يَنْقُضُ الْإِيمَانَ.
وَهَذَا أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ فِيهِمْ وَاحِدَةٌ وَاقِعَةٌ فِي مَعْصِيَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَصْلًا، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا تُقَاتِلُ الْأُخْرَى وَهِيَ تَرَى أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ فِي قِتَالِهَا إِيَّاهَا، وَتَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، لِذَلِكَ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَنْ يَقْتُلُ الْآخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِيمَا يَعْتَقِدُ، وَلِذَلِكَ هُمْ لَيْسُوا أَصْلًا عُصَاةً، حَتَّى نَحْتَجَّ بِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْمَعْصِيَةِ.
مَثَلًا اقْتِتَالُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ بِقِتَالِهِ ذَلِكَ، بَلْ كُلُّهُمْ يَتَعَبَّدُ اللَّهَ بِقِتَالِهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ مُدَافِعٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا مِمَّنْ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظيمًا﴾
[النساء: ٩٣]
مِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ
كَذَلِكَ مِمَّا ضَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنَ السُّنَّةِ، حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ»،
[مسلم، صحيح مسلم، ١٥٨٨/٣]
فَقَالُوا أَنَّهُ سَوْفَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَشْرَبُ مِنْ خَمْرِهَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، فَالْجَنَّةُ لَيْسَتْ دَارَ اخْتِبَارٍ، بَلْ دَارُ نَعِيمٍ لِلْمُؤْمِنِ، فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ :
﴿لا يَسمَعونَ حَسيسَها وَهُم في مَا اشتَهَت أَنفُسُهُم خالِدونَ﴾
[الأنبياء: ١٠٢]
لِذَلِكَ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ
دَلِيلٌ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَتَخْصِيصُهُ لِعَدَمِ شُرْبِ الْخَمْرِ، فِيهِ إِشَارَةُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ اسْتَعْجَلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا:
﴿وَيَومَ يُعرَضُ الَّذينَ كَفَروا عَلَى النّارِ أَذهَبتُم طَيِّباتِكُم في حَياتِكُمُ الدُّنيا وَاستَمتَعتُم بِها فَاليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَستَكبِرونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَبِما كُنتُم تَفسُقونَ﴾
[الأحقاف: ٢٠]
وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نُصِّرَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ نَبْقَى مُسْلِمِينَ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ.
تَارِيخُ مَنْزِلَةِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْأُمَّةِ وَبَعْضُ نَتَائِجِهِ
فِي بِدَايَةِ تَارِيخِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ فِي مَنْزِلَتِهَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَرَوْنَهَا أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، وَهِيَ فِعْلًا كَذَلِكَ، فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ لَا شَيْءَ أَغْلَى عِنْدَهُ مِنْ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، لِدَرَجَةِ أَنَّ ذَهَابَ الْحُزْنِ النَّاتِجِ عَنْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ أَغْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ نَفْسِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَقالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفورٌ شَكورٌالَّذي أَحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ﴾
[فاطر: ٣٤-٣٥]
حَيْثُ قَدَّمُوا ذِكْرَ ذَهَابِ الْحُزْنِ عَلَى ذِكْرِ الْجَنَّةِ نَفْسِهَا، لِذَلِكَ فَكُلُّ شَيْءٍ يَهُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي سَبِيلِ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ رَدُّ السَّحَرَةِ عَلَى وَعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ سَيَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَيُصَلِّبَهُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
﴿قالوا لا ضَيرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ﴾
[الشعراء: ٥١]
نَعَمْ، فِي سَبِيلِ نَيْلِ الْمَغْفِرَةِ يُهُونُ كُلَُ شَيْءٍ، النَّفْسُ، وَالْأَهْلُ، وَالْأَوْلَادُ، وَالْأَمْوَالُ، عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ جِيلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ظَهَرَتِ الْفِرَقُ، وَالَّتِي مِنْ أَشَرِّهَا فِرْقَةُ الْخَوَارِجِ الَّتِي مَرِقَتْ مِنْ الدِّينِ كَمَا مَرَقَ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِرْقَةُ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ مِنْهَا.
اسْتَغَلَّ الْمُرْجِئَةُ قَتْلَ الْخَوَارِجِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَلْصَقُوا بِهِمْ تُهْمَةَ التَّكْفِيرِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَأَقُولُ أَلْصَقُوا بِهِمْ، لِأَنَّنِي لَمْ أَجِدْ مَصْدَرًا مَوْثُوقًا يُثْبِتُ أَنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا يُكَّفِرُونَ بِالْمَعْصِيَةِ، فَصَارَ مَنْ كَفَّرَ الْمُصِّرَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ تُلْصَقُ بِهِ تُهْمَةُ الْخَوَارِجِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُهْمَةٌ يَنْفِرُ مِنْهَا كُلُّ مُسْلِمٍ، لِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ يَرَى الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ فِي كُفْرِ الْمُصِّرِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، يُكَذِّبُهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُرْمَى بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الشَّنِيعَةِ.
وَهَكَذَا بَدَأَتْ خُطُورَةُ الْمَعْصِيَةِ تَنْقُصُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، حَتَّى صَارَتْ أَمْرًا مَأْلُوفًا جِدًّا، لَا يُحَرِّكُ فِينَا سَاكِنًا، فَصِرْنَا لَا نُنْكِرُ أَغْلَبَهَا نَظَرًا لِانْتِشَارِهَا، فَصِرْنَا بِذَلِكَ مِثْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ
﴿لُعِنَ الَّذينَ كَفَروا مِن بَني إِسرائيلَ عَلى لِسانِ داوودَ وَعيسَى ابنِ مَريَمَ ذلِكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدونَكانوا لا يَتَناهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلونَ﴾
[المائدة: ٧٨-٧٩]
نَعَمْ لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ، فَآيَاتُ اللَّهِ لَا تُحَابِي أَحَدًا، وَنَحْنُ اعْتَدْنَا الْمَعَاصِيَ لِدَرَجَةِ أَنَّنَا لَمْ نَعُدْ نَتَنَاهَى عَنْهَا، لِذَلِكَ اسْتَحْقِّينَا لَعْنَةَ اللَّهِ كَمَا لَعَنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا فَرْقَ.
وَإِنْ كَانَ تَثْقُلُ عَلَيْكَ مُوَاجَهَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، عَلَيْكَ أَنْ تُثْقِلَ عَلَيْكَ مَعْصِيَةُ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَكَ، وَصَوَّرَكَ، وَشَقَّ سَمْعَكَ، وَبَصَرَكَ فَهِيَ أَعْظَمُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَعِنْدَمَا كُنَّا مُؤْمِنِينَ نَصَرَنَا اللَّهُ، وَمَكَّنَ لَنَا، وَلَمَّا كَفَرْنَا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ، كَمَا ضَرَبَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْوَاقِعُ خَيْرُ شَاهِدٍ.
إِنَّ هَدَفِي مِنْ هَذِهِ السُّطُورِ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَشْخِيصَ الْوَاقِعِ وَحَسْبُ، وَإِنَّمَا لِكَيْ نَنْتَبِهَ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ أَمْرٌ خَطِيرٌ جِدًّا، وَنَسْعَى لِتَغْيِيرِ تَصَوُّرِ النَّاسِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، حَتَّى نُطِيعَ اللَّهَ كَمَا يَجِبُ، فَيَتَحَقَّقُ لَنَا وَعْدُهُ الْخَالِدُ لِلْمُؤْمِنِينَ:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾
[النور: ٥٥]
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.