معنى الإسلام لغة واصطلاحا وعمليا

 مَدفُوعا بِأسْبابه الخاصَّة ، أَرَاد جُون أن يَعرِف مَا هُو الإسْلام ، بِهَدف أن يُصْبِح مُسْلِما ، فَبدَأ بِالْبَحْث عن الإسْلام مِن خِلَال الوسائل المتاحة ، وَالتِي مِن أهمِّهَا الإنْترْنيت ، ونظرًا لِكَون جُون بَاحِث جادٌّ لا يَتَقبَّل الإجابة إِلَّا بَعْد فَحْص وَتدقِيق ، فَإنَّه وجد نَفسَه أَمَام عِدَّة توجُّهَات ، كُلُّ وَاحِد مِنهَا يَدعِي أَنَّه هُو الإسْلام اَلصحِيح .

فِي بِداية بَحثِه أَدرَك أنَّ هُنَاك فِرْقتَيْنِ كبيرتيْنِ ، أَغلَب المنْتسبين إِلى الإسْلام ينْتمون إِليْهِمَا ، وَهمَا اَلسنَة والشِّيعة ، لِكلٍّ مِنْهمَا تَصورُه اَلْخاص عن مَفهُوم الإيمان ، فالشِّيعة يُؤْمنون بِأنَّ الإمامة جُزْء أَساسِي مِن الإيمان ، بيْنمَا لا يعْتبر أَهْل السُّنَّة الإمامة مِن الدِّين ، ويعْتقدون أَنهَا مَترُوكة لِلشُّورى .

لَاحَظ جُون أَنَّه حَتَّى دَاخِل كُلِّ فِرْقَة مِن هَذِه الفرق اِخْتلافات حَوْل مَفهُوم الإسْلام ، تَصِل أحْيانًا إِلى التَّكْفير ، كمَا هُو حَاصِل بَيْن بَعْض السَّلفيَّة وبعْض الصُّوفيَّة ، على الرَّغْم مِن كَون كِلَا الفرْقتيْنِ تَحسب نفْسهَا مِن أَهْل السُّنَّة .

إِنَّ بَحْث جُون يَكشِف عن مُشْكِلة حَقيقِية وَهِي صُعُوبَة تَحدِيد مَا هُو الإسْلام الحقيقيُّ بِشَكل قَاطِع ، وَلكَي نَحُل هذَا الإشْكال اَلعوِيص فَإننِي أَعتَقد أَنَّه عليْنَا الرُّجوع إِلى اَلقُرآن والسُّنَّة ولسان العرب يَوْم نزل الوحْي ، لِأنَّنَا نَتفِق جميعًا أنَّ رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم وصحابته طَبقُوا الإسْلام اَلصحِيح ، كمَا نَتفِق جميعًا أَنَّه لَم يَكُن عِنْدهم غَيْر اَلقُرآن والسُّنَّة ، لِذَلك اِتِّخاذ اَلقُرآن والسُّنَّة ولسان العرب كَأَداة لِفهْمهمَا كمصْدر حَصرِي لِمعْرِفة مَعنَى الإسْلام اَلصحِيح ضَرُورَة عَقلِية وَشرعِية .

قَبْل أن نَبدَأ فِي اَلحدِيث عن مَعنَى الإسْلام لُغَة ، واصْطلاحًا وتطْبيقه العمَليَّ ، أودُّ أنْ أُوأكِد على ضَرُورَة التَّجَرُّد مِن كُلِّ شَيْء اَلتِي تَحدثت عَنهَا بِإسْهَاب فِي المقَال السَّابق ، وَإلَّا فلن نَستطِيع الاسْتفادة مِن الآيَات اَلتِي سَوْف أَذكُرها فِي هَذِه السُّطور ، لِذَلك مِن الضَّروريِّ جِدًّا ، قِراءة المقَال السَّابق ، قَبْل قِراءة هذَا المقَال ، وَبسم اَللَّه نَبدَأ على برَكَة اَللَّه .

مَعنَى الإسْلام لُغَة 

معنى الإسلام لغة واصطلاحا وعمليا

لِكيْ نَفهَم جَوهَر الإسْلام ، يَجِب أن نَفهَم مَعنَى كَلمَة الإسْلام فِي لِسَان العرب أوَّلا ، ثُمَّ مَعْنَاها فِي الوحْي ، لِأنَّ الاسْم مُعبِّر عن حَقِيقَة اَلمُسمى ، لِذَلك أَبدَأ فَأقُول : 

الإسْلام مُشتَق مِن فِعْل أَسلَم ، وَهُو بِمعْنى سَلَّم ، كمَا قال الجوْهريُّ :

وأَسْلَمَ أمرَه إلى الله، أي سَلَّمَ. وأَسْلَمَ، أي دخل في السَلْمِ، وهو الاستسلام. وأَسْلَمَ من الإسلام. وأَسْلَمَهُ، أي خذله.  

[الجوهري، أبو نصر ,الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ,5/1952]

وَهُوَ يَعْنِي الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ:

وَمِنَ الْبَابِ أَيْضًا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ ; لِأَنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ الْإِبَاءِ وَالِامْتِنَاعِ.  

[ابن فارس، مقاييس اللغة، ٩٠/٣]

مَعنَى الإسْلام اِصْطلاحًا 

اِصْطلاحًا يُطْلَق الإسْلام على الدِّين اَلذِي بعث بِه مُحمَّد صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، وَالذِي يَعنِي تَسلِيم النَّفْس لِلَّه تسْليمًا مُطْلقًا ، ودليل ذَلِك قَولُه تَعالَى :

﴿وَمَن أَحسَنُ دينًا مِمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبراهيمَ خَليلًا﴾   

[النساء: ١٢٥]

أَسلَم وَجهَه ، أيْ سَلَّم نَفسَه لِلَّه ، أيْ اِنْقَاد لِأَمر اَللَّه جلَّ جلاله ، اِنْقيادًا مُطْلقًا ، بِحَيث لََا يَبقَى شَيْء إِلَّا لِلَّه جلَّ جلاله ، ودليل ذَلِك قَولُه تَعالَى :

﴿قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ۝لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ﴾  

[الأنعام: ١٦٢-١٦٣]

فالشَّعائر التَّعبُّديَّة كُلهَا لِلَّه ، والْحياة كُلهَا لَه ، بِمَا فِيهَا حَيَاة المرْء السِّياسيَّة ، والاجْتماعيَّة ، والاقْتصاديَّة ، والْقضائيَّة ، والْمَوْتُ أيْضًا لَه سُبْحانه ، فلم يَبْق لِلْمرْء شَيْء ، فَهُو يَأتَمِر بِأَمر اَللَّه وَحدَه فِي كُلِّ شَيْء ، وَهذَا مَا دلَّ عليْه السُّؤَال الاسْتنْكاريُّ اَلذِي تَبِع الآيَات السَّابقة :

﴿قُل أَغَيرَ اللَّهِ أَبغي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ﴾  

[الأنعام: ١٦٤]

أَبغِي ربًّا ، يَعنِي أَبغِي سيِّدًا أَتلَقى مِنْه الأوامر ، فالرَّبُّ تَعنِي السَّيِّد اَلمُطاع . 

إِنَّ الإسْلام قَرَار بِتسْلِيم النَّفْس والْمَال لِلَّه وَحدَه ، تسْليمًا مُطْلقًا ، بِحَيث تَنعَدِم معه الأنَا تمامًا ، فَمُنذ أن يَدخُل المرْء فِي الإسْلام ، فَإنَّه باع نَفسَه وماله لِلَّه :

﴿إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ﴾  

[التوبة: ١١١]

فلم يَعُد لَه أن يَقُول نَفسِي ، أو مَالِي ، بَعْد هَذِه البيْعة ، فنفْسه وماله قد بيعا لِلَّه وَحدَه ، والثَّمن هُو الجنَّة اَلتِي هِي فِي اَلآخِرة .

بِماذَا يُؤْمِن اَلمسْلِم 

بماذا يؤمن المسلم

إِنَّ اَلمسْلِم يَنطَلِق مِن حَقِيقَة مُطلَقَة ، وَهِي أَنَّه هُو ، والْكَوْن كُلُّه ، مخْلوقات خلقهَا اَللَّه جلَّ جلاله ، وَأنَّه يعيش على أَرْض اَللَّه ، وتحْتَ سَمائِه ، وَبرزْقِه ، وَكُل شَيْء هُو مُلك لِلَّه وَحدَه ، لِذَلك مِن البديهيِّ والْعَدْل أن يُطيع اَللَّه وَحدَه ، ويخْضع لَه وَحدَه ، لِأَنه مُلك لَه وَحدَه سُبْحانه ، فلَا يَجعَل لَه أنْدادًا يُطيعَهم مِن دُونه ، ويخْضع لَهُم ، وَهذَا هُو الإيمان بِاللَّه .

﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ۝الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِراشًا وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقًا لَكُم فَلا تَجعَلوا لِلَّهِ أَندادًا وَأَنتُم تَعلَمونَ﴾  

[البقرة: ٢١-٢٢]

أَمَّا مَن اِتَّخذ أنْدادًا لِلَّه ، فَهُو يُطيعهم ، ويخْضع لَهُم ، فَهُو أَحمَق ، ظَالِم لِنفْسه ، حَيْث يُطيع مَن لََا يَملِك لَه شيْئًا على الإطْلاق :

وَاتَّخَذوا مِن دونِهِ آلِهَةً لا يَخلُقونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقونَ وَلا يَملِكونَ لِأَنفُسِهِم ضَرًّا وَلا نَفعًا وَلا يَملِكونَ مَوتًا وَلا حَياةً وَلا نُشورًا﴾ 

[الفرقان: ٣]

إِذَا اِتَّفقْنَا على مَا سبق ، وَيجِب أن نَتفِق عليْه ، فلَا أحد يَزعُم أَنَّه خَلق نَفسه بِنفْسه ، أو خَلَق الأرْض اَلتِي يعيش عليْهَا ، عليْنَا أن نَعرِف أنَّ اَللَّه أَرسَل إِليْنَا رُسُلا بِالْبيِّنات والْهدى ، وأعْطى لِكلِّ وَاحِد مِنْهم آيات تُثْبِت أَنَّه رَسُول مِن عِنْد اَللَّه ، وَهنَا اِنقسَم النَّاس إِلى قِسْميْنِ :

قِسْم قَبِل اَلحَق اَلذِي أتى بِه رُسُل اَللَّه ، وانْقادوا لَه ، وَهذَا هُو الإيمان بِكتب اَللَّه وَرسلِه ، وقسْم أعْرضوا ، وتكبروا ، فكفروا بِرسل اَللَّه جلَّ جلاله ، وَهذَا مَا أَخبَر بِه رَبنَا عزَّ وجلَّ فِي قَولِه :

﴿هُوَ الَّذي خَلَقَكُم فَمِنكُم كافِرٌ وَمِنكُم مُؤمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾  

[التغابن: ٢]

لِذَلك فِي الإسْلام لََا تُوجَد إِلَّا هُويَّتَان ، مُسْلِم وَكافِر ، فالْكافر يَنتَمِي إِلى فُسْطاط الكافرين على اِخْتلافهم فِيمَا بيْنهم ، وأما الْمسْلم فيَنتَمِي لِلْمسْلمين بِغضِّ النَّظر عن ألْوانهم ، وألْسنتهم ، والْمناطق الجغْرافيَّة اَلتِي يَسكُنون فِيهَا ، وَهُو بريء مِن اَلكُفار ولو كَانُوا أهْله فِي اَلدَّم ، وَلذَلِك الإسْلام لَيْس دِين عِرْق مُعيَّن كالْيهوديَّة اَلتِي تَخُص بَنِي إِسْرائيل ، وليْس دِين مِنطَقة مُعَينَة ، وَإِنمَا هُو دِين كُلُّ مِن أَسلَم نَفسَه لِلَّه ، أيًّا كان أَصلُه أو لَونُه . 

أَوَّل الرُّسل هُو آدم عليْه السَّلَام ، وآخرهم هُو مُحمَّد صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم اَلذِي بعث إِلى النَّاس كَافَّة ، ورسالته مَحصُورة فِي اَلقُرآن والسُّنَّة ، والْإسْلام اَلذِي جاء بِه يُترْجَم عمليًّا بِالْقيام بِأرْكَان الإسْلام ، اَلتِي سَوْف نُبَينهَا فِيمَا بَعْد إِن شاء اَللَّه ، وَبَقيَّة شَرائِع الإسْلام . 

يُؤْمِن اَلمسْلِم كَذلِك بِالْملائكة الَّذين هُم خَلْق خَلقَه اَللَّه لا يَعصُون اَللَّه مَا أَمرَهم ، ويفْعلون مَا يُؤْمرون ، مِن أَشهرِهم جِبْريل اَلذِي يَنقُل الوحْي إِلى رُسُل اَللَّه صَلَّى اَللَّه عَليهِم وَسلَّم ، وإسْرافيل اَلمُوكل بِالنَّفْخ فِي الصُّور ، وميكائيل اَلمُوكل بِتقْسِيم الأرْزاق ، وآزَّرائيل اَلمُوكل بِالْمَوْتِ ، وَمالِك خَازِن النَّار . 

كَذلِك يُؤْمِن اَلمسْلِم أنَّ حياته فِي الدُّنْيَا هِي حَيَاة قَصِيرَة ، يُمتَحَن فِيهَا ، وأنَّ الحيَاة الأبديَّة هِي اَلتِي فِي اَلآخِرة ، حَيْث يَنعَم اَلمسْلِم بِرحْمة اَللَّه ، فَيغفِر لَه ذُنوبه ، ويدْخله جَنَّات اَلنعِيم ، بيْنمَا يُخلّد الكافر فِي النَّار والْعياذ بِاللَّه . 

كمَا يُؤْمِن اَلمسْلِم بِالْقَدر خَيرِه وشرِّه ، ومَا يَنجُم عن ذَلِك مِن رِضَا بِقضاء اَللَّه وَقدرِه ، فلَا يَجزَع لِمَا يُصيبه فِي الحيَاة الدُّنْيَا ، وَإِنمَا يَصبِر ويحْتَسب .

شُرُوط الإسْلام 

لِكي يَصِح الإسْلام اِبتِداء ، هُنَاك شرْطانِ لَابُد مِن تحقُّقهمَا ، وَإلَّا فَإِن المرْء لَم يُسلم لِلَّه ، ولو زعم أَنَّه مُسْلِم ومؤمن ، وإليْك بيانهمَا :

الإخْلاص 

إِنَّ اَللَّه عزَّ وجلَّ أَغنَى الشُّركاء عن الشِّرْك ، ولَا يَقبَل إِلَّا إِخلَاص الدِّين لَه سُبْحانه ، يَقُول رَبنَا عزَّ وجلَّ :

﴿إِنّا أَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدّينَ۝أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَى اللَّهِ زُلفى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم في ما هُم فيهِ يَختَلِفونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾

[الزمر: ٢-٣]

الإخْلاص هُنَا اَلمُراد بِه لَيْس مُجرَّد إِخلَاص النِّيَّة فِي العبادة لِلَّه ، وَإِنمَا أيْضًا إِخلَاص التَّشْريع ، بِحَيث لََا يَعبُد اَللَّه إِلَّا بِمَا أَنزَل فِي كِتابه ، بِدليل أنَّ المشْركين فِي هَذِه اَلآيَة يُصرِّحون أَنَّه لَيْس عِنْدهم هدف مِن عِبادة شُركائهم غَيْر زِيادة التَّقَرُّب مِن اَللَّه سُبْحانه ، وَهذَا كذب وَكفْر ، لِأنَّ من أَرَاد التَّقَرُّب إِلى اَللَّه يلْزمه أن يَتَقيَّد بِمَا أَنزَل مِن كِتَاب على رَسولِه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم . 

كَذلِك يَقُول رَبنَا عزَّ وجلَّ فِي نَفْس السُّورة مُبَينا خُطُورَة عدم الإخْلاص لِلَّه سُبْحانه : 

﴿قُل إِنّي أُمِرتُ أَن أَعبُدَ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدّينَ۝وَأُمِرتُ لِأَن أَكونَ أَوَّلَ المُسلِمينَ۝قُل إِنّي أَخافُ إِن عَصَيتُ رَبّي عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ۝قُلِ اللَّهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَهُ ديني۝فَاعبُدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ قُل إِنَّ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم وَأَهليهِم يَومَ القِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ۝لَهُم مِن فَوقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِن تَحتِهِم ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقونِ﴾

[الزمر: ١١-١٦]

حَيْث ترى التَّوْكيد على الإخْلاص لِلَّه سُبْحانه فِي الانْقياد اَلمُطلق وَهُو الدِّين ، وَترَى عُقُوبَة من أَشرَك بِاللَّه فلم يُخلِص لَه الدِّين ، والْعياذ بِاللَّه . 

هذَا يَعنِي عمليًّا أنَّ قَرَار الإسْلام يَجِب أن يَكُون تسْليمًا مُطْلقًا لِلَّه سُبْحانه ، بِحَيث يَخضَع المرْء لِجميع أَوامِر اَللَّه سُبْحانه ، ولَا يَكُون لَه آمِر إِلَّا إِيَّاه ، وقد مَثَّل رَبنَا لِلْمسْلم الحقيقيِّ فِي هَذِه السُّورة بِقوْله : 

﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا الحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ﴾

[الزمر: ٢٩]

فالْمؤْمن هُو اَلذِي أَسلَم نَفسَه لِلَّه وَحدَه ، فلَا يَأتَمِر بِأَمر أحد إِلَّا اَللَّه ، وَلذَلِك هُو فِي رَاحَة وطمأْنينة ، لِأنَّ الأوامر اَلتِي يتلقَّاهَا مُنسجمَة مَصْدَرها وَاحِد ، أَمَّا اَلمشْرِك فَهُو من يُريد أن يُطيع اَللَّه ، ويطيع غَيْر اَللَّه فِي نَفْس الوقْتِ ، لِذَلك هُو مُشتَّت يَتَلقَّى الأمْر وعكْسه فِي نَفْس الوقْتِ ، اَللَّه يَأمُر بِفعْل أَمْر مَا ، وَهَواه أو مَعبُوده الآخر يَأمُره بِأن لا يفْعله . 

مِن أَمثِلته اَلمشْرِك اَلمصِر على المعْصية ، فَهُو لَم يُخلِص دِينه لِلَّه سُبْحانه ، وَبقِي يَعبُد هَوَاه والْعياذ بِاللَّه ، فَهُو كمن يَقُول بِلسان حَالِه : 

يَا اَللَّه سَوْف أُطيع جميع أَوامِرك بِاسْتثْناء أَمْر وَاحِد ، فَهذَا سَوْف أُطيع فِيه هَوَاي .

وَهذَا هُو الشِّرْك اَلصرِيح والْعياذ بِاللَّه . 

التَّسْليم 

فِي الواقع لا يَكفِي الإخْلاص لِلَّه بِاللِّسان والْجوارح ، بل يَجِب أن يُخلِص القلْب أيْضًا ، لِدرجة أَنَّه لا يَجِد أيَّ حرج فِي حُكْم اَللَّه مَهمَا كان ، ولو كان ضِدَّه ، وَهذَا مَا أَخبَر بِه رَبنَا عزَّ وجلَّ فِي قَولِه : 

﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسليمًا﴾

[النساء: ٦٥]

فَاَللَّه هُنَا أَقسَم بِنفْسه ، وَفِي ذَلِك دَلالَة على أنَّ أَغلَب النَّاس غَيْر مُصدِّق بِجواب القسَم ، كمَا هُو مُتقَرِر عِنْد عُلَماء البلاغة ، لِأنَّ أَغلَب النَّاس يَعتَقِد أَنَّه يَكفِي الانْقياد بِالْجوارح واللِّسان ولو لَم يَرْض القلْب تمامًا ، وَهذَا مَا بَيَّن رَبنَا عزَّ وجلَّ بُطْلانه ، وأنَّ صاحبه لَيْس بِمؤْمن ، وأقْسم على ذَلِك بِنفْسه سُبْحانه ، حَتَّى لََا يَبقَى أَدنَى شكٍّ فِي عدم إِيمانه . 

لِذَلك لَابُد مِن تَسلِيم مُطلَق لِلَّه سُبْحانه بِحَيث لا يَكُون فِي القلْب أَدنَى حرج مِن حُكْم اَللَّه سُبْحانه .

لِماذَا يَجِب أن أَكُون مُسْلِما 

لِأنَّني بِبساطة لََا أَملِك اَلحَق فِي أن أَكُون غَيْر مُسْلِم لِلَّه جلَّ جلاله ، فَأنَا مُلكُه سُبْحانه ، وبالتَّالي فليْس لِي الخيَار فِي أن أُطيع اَللَّه ، أو لا أُطيعه أصْلا . 

أنَا مُسْلِم لِلَّه لَيْس لِكَون الإسْلام فِيه سعادَتي فِي الدُّنْيَا والْآخرة ، وَإِنمَا لِكوْني عَبْد لِلَّه ، لِذَلك يَجِب أن أَكُون مُسْلِما ولو كان مَصيرِي هُو جَهنَّم نفْسهَا ، لِأنَّني لََا أَملِك حقَّ الاعْتراض . 

إِنَّما أُريد أن أُوصِله هُو أَننَا نَحْن البشر عَبيد لِلَّه جلَّ جلاله ، وبالتَّالي لََا نَملِك إِلَّا أن نُطيع اَللَّه بِغضِّ النَّظر عن طَبِيعَة أَمرِه ، ولو كان فِيه قتْلنَا ، وَقتْل أهْلِنَا ، وَهذَا مَا فَهمَه المؤْمنون أَصحَاب الأخْدود ، فاقْتحموا نار الدُّنْيَا ، وفازوا الفوْز اَلكبِير :

﴿قُتِلَ أَصحابُ الأُخدودِ۝النّارِ ذاتِ الوَقودِ۝إِذ هُم عَلَيها قُعودٌ﴾

[البروج: ٤-٦]

اَلكثِير مِن النَّاس لا يَقبَل بِالْإسْلام ، إِلَّا لِكوْنه يُحقِّق مَصالِحه المادِّيَّة ، وَهذَا غلط ، لِأَنه متى كَانَت أَوامِر اَللَّه تُخَالِف مَصالِحه كَفَر والْعياذ بِاللَّه ، فيخْسر الدُّنْيَا والْآخرة كمَا أَخبَر رَبنَا سُبْحانه :

﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَعبُدُ اللَّهَ عَلى حَرفٍ فَإِن أَصابَهُ خَيرٌ اطمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصابَتهُ فِتنَةٌ انقَلَبَ عَلى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ﴾

[الحج: ١١]

يُضَاف إِلى الحقيقة السَّابقة المتمثِّلة فِي كوْننَا عبِيد لِلَّه ، خلقنَا اَللَّه ، وَمِن ثمَّ لََا نَملِك اَلحَق فِي معْصيَته ، كَون الإسْلام فِيه سعادتنَا فِي الدُّنْيَا : 

﴿قالَ اهبِطا مِنها جَميعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمّا يَأتِيَنَّكُم مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى﴾

[طه: ١٢٣]

ونجاتنَا مِن النَّار ، وَفَوزنَا بِالْجَنَّة ، وَمِن ثُمَّ فَإنَّه لََا يُوجَد أيُّ سبب مَهمَا كان ، لِعَدم الإسْلام لِلَّه سُبْحانه ، لا مِن حَيْث اَلحَق والْعَدْل ، ولَا مِن حَيْث مَصْلَحة اِبْن آدم ، وَلذَلِك فَإِن اَلكُفر هُو أَعظَم جَرِيمَة يقْترفهَا الإنْسان ، وَهِي شرٌّ مُطلَق ، صاحبهَا يَستَحِق أشدَّ العذَاب والْعياذ بِاللَّه . 

أَركَان الإسْلام 

أركان الإسلام

بَعْد أن عرفْنَا أنَّ الإسْلام هُو تَسلِيم النَّفْس لِلَّه تسْليمًا مُطْلقًا ، بَقِي أن نَعرِف كَيْف نُترْجِم ذَلِك عمليًّا ، بِمعْنى أَننِي أنَا أَخذْتُ القرَار بِالْإسْلام ، ومنْشَرح صَدرِي بِذَلك ، وَلكِن كَيْف أُطبِّق هذَا القرَار ، وَهذَا مَا أَجَاب عليْه رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم فِي قَولِه :

«الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»  

[مسلم ,صحيح مسلم ,1/36]

وَفِي مَا يَلِي مُدَارسَة لِهَذا اَلحدِيث : 

شَهادَة أنَّ لا إِله إِلَّا اَللَّه 

إِنَّ أَوَّل تَجلِية مِن تجلِّيَات قَرَار الإسْلام ، هِي شَهادَة أنَّ لا إِله إِلَّا اَللَّه ، وَهِي شَهادَة مُكَونَة مِن شِقَّين : الشِّقُّ الأوَّل هُو نَفْي الألوهيَّة عن أيِّ إِله ، وَالإِله هُو المعْبود والْمجير :

[أله] أَلهَ بالفتح إِلاهَةً، أي عبد عبادة. ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (ويذرك وإلاهتك) بكسر الهمزة. قال. وعبادتك  

[الجوهري، أبو نصر ,الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ,6/2223]

وَجاءَ في تاجِ العَروسِ

(و) تقولُ: (} أَلِهَ، كفَرِحَ) ، يَأْلَهُ {أَلْهاً: (تَحَيَّرَ) ، وأَصْلُه وَلِهَ يَوْلَهُ وَلْهاً، وَمِنْه اشْتُقَّ اسمُ الجَلالَةِ لأنَّ العُقُولَ تَأَلَهُ فِي عَظَمَتِه، أَي تَتَحَيَّرُ، وَهُوَ أَحَدُ الوُجُوه الَّتِي أَشارَ لَهَا المصنِّفُ أَوَّلاً.   (و) } أَلِهَ (على فلانٍ: اشْتَدَّ جَزَعَه عَلَيْهِ) ، مِثْلُ وَلِهَ؛ نَقَلَهُ الجوْهرِيُّ.   (و) قِيلَ: هُوَ مأْخُوذٌ مِن {أَلِهَ (إِلَيْهِ) إِذا (فَزِعَ ولاذَ) ، لأنَّه سُبْحَانَهُ المَفْزَعُ الَّذِي يُلْجأُ إِلَيْهِ فِي كلِّ أَمْرٍ 

[مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ٣٢٤/٣٦]

لِذَلك فالشِّقُّ الأوَّل " لا إِله " نَفْي لِكل مَعبُود يُخضَع لَه ، أو مُجيرٍ يُسْتجَار بِه ، والشِّقُّ الثَّاني " إِلَّا اَللَّه " إِقرَار بِأنَّ اَللَّه هُو وَحدَه المعْبود والْمجير ، وَهذَا الإقْرار لا يَكُون حقًّا إِلَّا إِذَا صاحبه العمل فِعْلا ، بِحَيث لا يَخضَع المرْء لِغيْره سُبْحانه ، ولَا يَلجَأ إِلَّا إِلَيه ، وقد جمع هذيْنِ المعْنيَّين قَولُه تَعالَى : 

﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾   

[الفاتحة: ٥]

يَنبَغِي هُنَا أن نُميِّز بَيْن الشَّهادة ، والنُّطْق بِالشَّهادة ، فَمَن قال أَشهَد أنَّ لا إِله إِلَّا اَللَّه ، وَكَان لا يَعرِف مَعنَى كَلمَة " أَشهَد " فَهُو لَم يَشهَد أصْلا ، وَإِنمَا لَفظ حُروفًا دُون مَعْنَاها ، ولَا يُعد شاهدًا ، لِأنَّ مَعنَى الشَّهادة هُو الإقْرار بِصدْق مَا سَوْف يَشهَد عليْه ، وَهُو لَم يَعنِ هذَا المعْنى . 

يَتضِح هذَا الأمْر مع العجم ، فَهُم عِنْدمَا يُقرِّرون دُخُول الإسْلام عَليهِم أن يشْهدوا أنَّ لا إِله إِلَّا اَللَّه ، فِعْلا ، أيْ بِلغاتهم اَلتِي يتكلَّمون بِهَا ، وليْس عَليهِم تَكرِير أَلفَاظ الشَّهادة بِاللِّسان العرَبيِّ ، لِأنَّ مُجرَّد تَكْرار جُملَة " أَشهَد أنَّ لا إِله إِلَّا اَللَّه " بِاللِّسان العرَبيِّ اَلذِي لا يَفهَم الأعْجميُّ لَيْس بِشهادة أصْلا ، وبالتَّالي لَيْس مِن أَركَان الإسْلام . 

كَذلِك إِذَا عَلِم المتكلِّم معْنى كَلمَة " أَشهَد " وَلَكنَّه جَهِل مَعنَى " الإله " كمَا هُو الغالب فِي الدُّول العربيَّة ، فَإنَّه ساعتهَا شَاهِد على أَمْر يجْهله تمامًا ، أيْ أَنَّه شَاهَد زُور فِي حَقِيقَة أَمرِه ، ومن كان كَذلِك ، لَم يَدخُل الإسْلام بَعْد ، فالْإسْلام لا يُدخَل بِشهادة الزُّور . 

لِلْأسف اَلشدِيد لَمّا جَهِل النَّاس العربيَّة ، وَخصُوصا مَعنَى كَلمَة الإسْلام ، وَكلِمة الإله ، وَكلِمة العبادة ، أَصبَح الإسْلام بِلَا مَعنَى حَقيقِي ، والدُّخول فِيه مُجرَّد التَّلَفُّظ بِألْفَاظ دُون إدراك مَعْنَاها ، والدَّليل على ذَلِك عدم تَرجمَة كَلمَة الإسْلام عِنْد نقْلهَا إِلى اللُّغَات الأعْجميَّة ، حَيْث تُعَامَل مُعَاملَة الاسْم العلم ، وتكْتب " islam " .

كَذلِك عِنْدمَا يُقرِّر أَعجَمي الدُّخول فِي الإسْلام ، يُلقَّن أَلفَاظ الشَّهادة بِالْعربيَّة ، وَبذَلِك يُصْبِح مُسْلِما ، وَهُو فِي الواقع لَم يُسلم بَعْد ، حَتَّى يُدْرِك مَعنَى الإله ، ومعْنى الإسْلام اَلعمِيق وَالذِي يَعنِي البعث مِن الموْتِ حرْفيًّا .

﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾  

[الأنعام: ١٢٢]

حَيْث سَوْف تَتَغيَّر حياته تغْييرًا جذْريًّا ، حَيْث يَنقَطِع مِن مُحيطِه الكافر اَلذِي كان فِيه ، ويبْدأ حَيَاة جَدِيدَة ، بِتصوُّرات جَدِيدَة ، مُختلفَة تمامًا عن حَياتِه السَّابقة ، الأمْر اَلذِي لَم يفْهمْه كثير مِمَّن اِنتسَب إِلى الإسْلام حديثًا ، والسَّبب فِي ذَلِك قُصُور الدُّعَاة عن بَلَاغ مَعنَى الإسْلام اَلعمِيق لِهؤلَاء ، ولَا حَوَّل ولاقَوَّة إِلَّا بِاللَّه .

شَهادَة أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه 

الشِّقِّ الثَّاني مِن الرُّكْن الأوَّل هُو شَهادَة أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، وَهذِه الشَّهادة تَعنِي التَّصْديق بِأنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، أَرسَله اَللَّه بِرسالة هِي اَلقُرآن والسُّنَّة إِلى النَّاس كَافَّة ، واتِّباعه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم لِقوْله تَعالَى :

﴿قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾

[آل عمران: ٣١]

وطاعَته صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، فَمَن لَمِّ يُطعه فَهُو كَافِر وليْس بِمسْلم لِقوْله تَعالَى :

﴿قُل أَطيعُوا اللَّهَ وَالرَّسولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ﴾

[آل عمران: ٣٢]

إِنَّ اِتِّباع رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم حصْرًا ، هُو ضَرُورَة عَقلِية لِقرار الإسْلام ، فَمَن أَسلَم نَفسَه لِلَّه ، عليْه أن يُطيع أَوامِر اَللَّه ، وَهذِه الأوامر إِنَّما جاء بِهَا رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، فمن لَم يتْبعْه كان كاذبًا فِي دَعْواه تَسلِيم نَفسِه لِلَّه ، لِأَنه لَم يُطِع اَللَّه . 

كَذلِك مَن اِتَّبع غَير مُحمَّد صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، فَهُو قطْعًا غَير مُطيع لِلَّه ، لِأَنه لم يأتنا رَسُول مِن عِنْد اَللَّه غَير مُحمَّد صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، وبالتَّالي فَالذِي يَتبَع غَيرَه لََا يُطيع اَللَّه قطْعًا ، لِأنَّ مَن يتْبعه غَيْر رَسُول مِن عِنْد اَللَّه . 

لِذَلك مَن يُقِر بِأنَّ مُحَمدا رَسُول مِن عِنْد اَللَّه ، وَلَكنَّه لا يتْبعه ، وَإِنمَا يَتبَع شُيوخه ، لَم يَدخُل الإسْلام أصْلا ، لِأَنه لَم يَأْت بِشهادة أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه على وجْههَا ، وَإِن زعم أَنَّه مُسْلِم ، وأنَّ شَيخَه يَتبَع رَسُول اَللَّه ، فَهذَا لا يَعذُره ، لِأَنه جعل شَيخَه فِي مَقَام رَسُول اَللَّه ، مَن اِتبعَه ، كأنَّمَا اِتَّبع رَسُول اَللَّه ، وَهذَا عَيْن الباطل . 

لِلْأسف هَذِه المسْألة ضلَّ فِيهَا كثير مِن النَّاس ، حَيْث نَصَّبُوا لِأنْفسهم أَئمَّة يتْبعونهم مِن دُون رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، ولو زَعمُو أَنهُم يتْبعونهم فِيمَا وافقوا فِيه اَلقُرآن والسُّنَّة ، لِأنَّهم كاذبون فِي زَعمهِم هذَا ، ودليل ذَلِك : 

أولا أَنهُم إِذَا عَلمُوا اَلقُرآن والسُّنَّة فِي المسْألة ، فالْأَولى أن يَنسُبوا أَنفُسهم إِلى اَلقُرآن والسُّنَّة . 

ثانيًا هُم أصْلا لا يفْهمون الوحْي بِإقْرارهم ، فكيْف يعْرفون متى يُوَافِق أئمَّتهم الوحْي ، أو يُخالفوه ، لِذَلك مقولتهم نَحْن نتْبعهم فِيمَا وَافَق اَلقُرآن والسُّنَّة فقط ، مُجرَّد كِذْبَة لِيبرِّروا لِأنْفسهم بِهَا اِتِّباع غَيْر رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، والْعياذ بِاللَّه مِن حَالهِم يَوْم القيامة : 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرينَ وَأَعَدَّ لَهُم سَعيرًا۝خالِدينَ فيها أَبَدًا لا يَجِدونَ وَلِيًّا وَلا نَصيرًا۝يَومَ تُقَلَّبُ وُجوهُهُم فِي النّارِ يَقولونَ يا لَيتَنا أَطَعنَا اللَّهَ وَأَطَعنَا الرَّسولا۝وَقالوا رَبَّنا إِنّا أَطَعنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلّونَا السَّبيلا۝رَبَّنا آتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذابِ وَالعَنهُم لَعنًا كَبيرًا﴾

[الأحزاب: ٦٤-٦٨]

إقام الصَّلَاة 

إقام الصلاة

إِنَّ مِن نِعَم اَللَّه جلَّ جلاله على اَلمسْلِم الصَّلَاة ، لِأنَّهَا لِقَاء مُبَاشِر مع اَللَّه سُبْحانه وَتَعالَى ، فِيه يُنَاجِي العبْد رَبَّه مُبَاشرَة ، فقد جاء فِي الأحاديث الصَّحيحة أنَّ العبْد إِذَا قام إِلى الصَّلَاة ، فَإِن اَللَّه يُقبِل عليْه بِوجْهه اَلكرِيم ، لِذَلك عليْه أن لا يَلتَفِت فِي صَلاتِه ، فَذلِك لا يليق بِالْعَبْد بَيْن يَدَي ربِّه . 

فَإذَا قال العبْد : 

الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين 

يُجيبه ربُّه حَمدَنِي عَبدِي 

فَإذَا قال العبْد : 

الرَّحْمن الرَّحِيم 

يُجيبه ربُّه أَثنَى عَلَيَّ عَبدِي 

فَإذَا قال العبْد : 

مَالِك يَوْم الدِّين 

يَقُول رَبنَا عزَّ وجلَّ مجدنِي عَبدِي 

فَإذَا قال العبْد : 

إِيَّاك نَعبُد وإيَّاك نَستعِين 

يُجيبه ربُّه هذَا لِي ، ولعبْدي مَا سأل 

فَإذَا قال العبْد : 

اهْدنَا الصِّرَاط الْمسْتقيم صِرَاط الَّذين أَنعَمت عَليهِم غَيْر الْمغْضوب عَليهِم ولَا الضَّالِّين 

يَقُول رَبنَا عزَّ وجلَّ هذَا لِعبْدي ، ولعبْدي مَا سأل .

وَيمكِن الرُّجوع إِلى مَقالِنا مِن تَدبُّر الفاتحة لِلازْدياد مِن مَعانِي هَذِه السُّورة ودُرَرِهَا . 

ثُمَّ يَستَمِع العبْد لِرَبه ، وَذلِك بِقراءة مَا تَيسَّر مِن اَلقُرآن ، ثُمَّ يَركَع ، فيُسبِّح بِحَمد اَللَّه مَا شاء اَللَّه ، ثُمَّ يَرفَع قائمًا ويحْمد اَللَّه بِمَا شاء اَللَّه مِن المحامد ، ثُمَّ يَسجُد ، وَهنَا يَبُث العبْد هُمُومَه إِلى رَبِّه ، ويناجيه ، ويدْعوه مَا شاء اَللَّه مِن ذَلِك ، ثُمَّ يَجلِس فيدْعو اَللَّه أيْضًا ، ثُمَّ يَسجُد أُخرَى لِيكلِّم اَللَّه أيْضًا وَيبُثه شُجُونَه ، ويدْعوه أن يُنزِل عليْه اَلمزِيد مِن رَحمَتِه ، ثُمَّ يَقُوم لِيكْمل صِلاته بِنَفس الطَّريقة . 

فأيُّ نِعْمَة أَكبَر مِن لِقَاء اَللَّه هذَا ، اَلذِي ملأ رَحمَة وَرأْفَة وَشفقَة بِالْعَبْد ؟ 

إِنَّ الصَّلَاة النَّابعة عن إِيمَان حَقيقِي كَنْز بِمَا فِي اَلكلِمة مِن مَعْنى ، فَهِي تُعيِّن على تَحمُّل المصاعب مَهمَا كَانَت ، وَلذَلِك قال رَبنَا عزَّ وجلَّ : 

﴿وَاستَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبيرَةٌ إِلّا عَلَى الخاشِعينَ﴾ 

[البقرة: ٤٥]

وَهِي تُزكِّي النَّفْس فَهِي كمَا قال رَبنَا عزَّ وجلَّ 

﴿اتلُ ما أوحِيَ إِلَيكَ مِنَ الكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكبَرُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تَصنَعونَ﴾ 

[العنكبوت: ٤٥]

وَذلِك أنَّ مَن عَلِم أَنَّه سيلْتَقي بِاللَّه خِلَال يَومِه ، اِشتغَل بِالاسْتعْداد لِلقاء اَللَّه ، وابْتَعد كُل اَلبُعد عَمَّا يُغضِب اَللَّه جلَّ جلاله ، لِذَلك المغْبون حقًّا مَن حُرم الصَّلَاة .

إِنَّ تَوزِيع الصَّلوات الخمْس خِلَال اليوْم يُحقِّق لِلْمسْلم العبادة المتَّصلة ، فلَا يَكُون عِنْده شَاغِل عن ذِكْر اَللَّه ، وَبِهذَا يَكُون فِعْلا صَدَق فِي إِسْلامه ، يَقُول رَبنَا عزَّ وجلَّ : 

﴿في بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ وَالآصالِ۝رِجالٌ لا تُلهيهِم تِجارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فيهِ القُلوبُ وَالأَبصارُ۝لِيَجزِيَهُمُ اللَّهُ أَحسَنَ ما عَمِلوا وَيَزيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللَّهُ يَرزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ﴾

[النور: ٣٦-٣٨]

إِيتَاء الزَّكَاة 

سبق وذكرتُ أنَّ عَقْد الإسْلام هُو بَيْع لِلنَّفْس والْمَال لِلَّه ، وعليْه فَإِن مال اَلمسْلِم هُو مال اَللَّه يصْرفه كَيْف يَشَاء ، وَمِن ذَلِك أَنَّه شرع مَقادِير مُعَينَة ، مِن أَصنَاف مُعَينَة ، تُعطَى لِنَاس مُعيَّنِين ، فَيقُوم بِهَا اَلمسْلِم اِسْتجابة لِلَّه ، وتحْقيقًا لِقرار الإسْلام . 

إِنَّ دَفْع الزَّكَاة هُو تَزكِية لِلنَّفْس مِن التَّعَلُّق بِالدُّنْيَا ، ومَا يَنجُم عن ذَلِك مِن خِصَال سَيئَة كالْجَشع والطَّمع ، وَهِي أيْضًا تَزكِية لِلْمجْتمع مِن أَمرَاض الحسد والتَّفْرقة ، فكانتْ بِذَلك مِن نِعَم اَللَّه اَلتِي لََا تُحصَى ولَا تُعَد . 

إِنَّ الزَّكَاة والنِّظام الماليَّ الإسْلاميَّ بِشَكل عامٍّ هُو النِّظَام الاقْتصاديُّ الأمْثل اَلذِي لا يَحرِم الفرْد مِن حقِّ التَّمَلُّك كمَا تَفعَل الأنْظمة الاشْتراكيَّة ، وَفِي نَفْس الوقْتِ لا تَسمَح لَه بِاسْتغْلال الفقراء كمَا تَفعَل الأنْظمة الرَّأْسماليَّة ، فَكَان بِذَلك الوسط بَيْن الطَّرفيْنِ اَلذِي جمع محاسنهمَا وترك عُيوبهمَا .

صَوْم رَمَضان 

مِن تجلِّيَات الإسْلام أيْضًا الامْتناع عن شَهوَتَيْ البطْن والْفَرج مِن طُلُوع الفجْر ، وَحتَّى غُرُوب الشَّمْس ، طِيلة شَهْر رَمَضان ، طَاعَة لِلَّه سُبْحانه ، حَيْث يَنتَصِر المرْء على شَهوَتِه الجسديَّة ، مُعْلِنا بِذَلك كُفرَه بِالْهَوى اَلذِي يَعبُده أَغلَب بَنِي آدم : 

﴿أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَن يَهديهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرونَ﴾

[الجاثية: ٢٣]

اَلحَج 

الحج

كَذلِك يَتَجلَّى الإسْلام فِي اَلحَج ، حَيْث يَترُك المرْء أَهلَه ، ودياره ، وأعْماله ، مُسْتجيبًا لِنداء اَللَّه سُبْحانه ، مُنْضمًّا بِذَلك إِلى رَكْب الإيمان ، حَيْث يَجتَمِع المؤْمنون مِن كُلِّ بِقَاع الأرْض ، كُلهُم فِي صعيد وَاحِد ، لَهُم لِبَاس وَاحِد ، وقوْل وَاحِد وَهُو : 

لَبَّيْك اللَّهمَّ لَبَّيْك ، لَبَّيْك لََا شريك لَك لَبَّيْك ، إِنَّ الحمْد ، والنِّعْمة ، لَك والْملْك ، لََا شريك لَك .

فيشْعر اَلمُؤمن فِعْلا بِقوْله تَعالَى : 

﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعونَ﴾

[المائدة: ٥٥]

يَتَجسَّد واقعًا فِي نَفسِه . 

مِن اَلمهِم التَّذْكير أنَّ الصَّلَاة ، والزَّكاة ، والصِّيام ، والْحجَّ ، لا تَكُون تجلِّيَات لِلْإسْلام إِلَّا إِذَا كان المرْء قد فعلهَا بِنَاء على قَرَار الإسْلام ، فَمَن فعلهَا لِغَرض آخر ، فَهِي ساعتهَا لَيسَت تجلِّيَات لِلْإسْلام ، وصاحبهَا لَيْس بِمسْلم أصْلا ، لِذَلك لَابُد مِن أن يَأتِي المرْء بِالشَّهادتيْنِ على وَجههِما المرْضي عِنْد اَللَّه ، حَتَّى يَكُون مُسْلِما تَنفعُه أعْماله .

نَواقِض الإسْلام 

إِنَّ الإخْلال بِأيِّ شَرْط مِن شُرُوط الإسْلام السَّابقة هُو نَاقِض لِلْإسْلام ، صاحبه لَيْس بِمسْلم مُطْلقًا ، ولو زعم أَنَّه كَذلِك . 

هذَا الإخْلال إِمَّا أن أن يَكُون بِصورة مِن صُوَر الشِّرْك الظَّاهر الكثيرة وَالتِي يَصعُب حَصرُها . 

أو يَكُون بِصورة مِن صُوَر عدم التَّسْليم كمن يَستهْزِئ بِآيات اَللَّه ، أو يَعرِض عَنهَا ، أو فِي قَلبِه حَرَج ، أو كُرْه لِبَعض أَحكَام اَللَّه . 

كَذلِك يُضَاف إِلى نَواقِض الإسْلام الإخْلال بِشروط الإيمان اَلتِي تَحدثت عَنهَا بِإسْهَاب فِي مَقَال مُسْتَقِل . 

لِلْأسف اَلشدِيد نظرًا لِعَدم فَهْم جَوهَر الإسْلام ، فَإِن كثيرًا مِن أَتبَاع الدَّعْوة النَّجْديَّة يَحصُرون عمليًّا نَواقِض الإسْلام فِي النَّواقض العشَرة اَلتِي ذكرهَا مُحمَّد عَبْد الوهَّاب ، والْحقيقة أَنهَا فقط أَمثِلة على عدم الإخْلاص لِلَّه وَعدَم التَّسْليم اَلمُطلق لَه ، ولم يُرد بِهَا الحصْر . 

نعم ، هُم يقولون أَنهَا لَيسَت كُل نَواقِض الإسْلام بِأفْواههم ، ولكنَّهم عمليًّا يُثْبتون ذَلِك ، لِأنَّ اَلمصِر على المعْصية عِنْدهم لَيْس بِكافر ، رَغْم كَونِه أخلَّ بِشرْطيِّ الإسْلام الإخْلاص والتَّسْليم ، لِأَنه لَم يَرِد فِي النَّواقض العشَرة ، وَلذَلِك قُلْت أَنهُم عمليًّا يَحصُرون نَواقِض الإسْلام فِيهَا ، لِأنَّهم لَم يُدْركوا جَوهَر الإسْلام ، ويتعاملون معه بِطريقة مِيكانيكيَّة . 

فِعْل كذَا يُؤدِّي إِلى كذَا ، دُون مَعرِفة لِماذَا أَدَّى إِلَيه .

إِذَا اِتَّفقْنَا على مَا سبق ، يُمْكِنك مُوَاصلَة القراءة ، وَإلَّا فاكْتب لِي فِي تَعلِيق وَجْه اِعْتراضك على مَا سبق ، وملاحظاتك ، حَتَّى نُناقشهَا قَبْل الدُّخول فِي التَّطْبيقات العمليَّة لِلْإسْلام اَلتِي هِي بَيْت اَلقصِيد .

مَعنَى الإسْلام عمليًّا 

إِنَّ التَّعْريف السَّابق رَغْم بداهَته عميق جِدًّا ، وخطير جِدًّا ، لِأَنه عمليًّا يَعنِي الثَّوْرة على كُلِّ سُلطَة مَعنوِية ، أو مادِّيَّة ، تُحَاوِل فَرْض نفْسهَا على اَلمسْلِم ، وَهنَا تَبدَأ ضَرِيبَة الإسْلام تَتَجلَّى ، تِلْك الضَّريبة اَلتِي تُعتَبَر قَاسِية جِدًّا بِمقاييسنَا المادِّيَّة ، لِدرجة أَنَّه لا يَقوَى على دفْعهَا غَيْر المسلمين الصَّادقين كمَا أَخبَر رَبنَا عزَّ وجلَّ فِي قَولِه : 

﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾

[البقرة: ٢١٤]

لِأنَّ أَهْل الأرْض لَن يقْبلوا أبدًا أن يَتَمرَّد أحد على سُلْطانهم ، لِذَلك مَن أَسلَم مِن رَعيتِهم يقومون بِتعْذيبه بِشَتى الوسائل حَتَّى يَخضَع لِدينِهم ، وَهذِه سنتهم مع جميع المؤْمنين ، وَمِن أَمثِلة ذَلِك ردُّ فِرْعوْن على السَّحَرة لَمَّا أعْلنوا إِيمانهم فِي قَولهِم :

﴿وَأُلقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدينَ۝قالوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمينَ۝رَبِّ موسى وَهارونَ﴾ 

[الأعراف: ١٢٠-١٢٢]

حَيْثُ قَالَ: 

﴿قالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّ هذا لَمَكرٌ مَكَرتُموهُ فِي المَدينَةِ لِتُخرِجوا مِنها أَهلَها فَسَوفَ تَعلَمونَ۝لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ﴾

[الأعراف: ١٢٣-١٢٤]

حَيْث تُلَاحِظ أنَّ فِرْعوْن اِتَّهمَهم بِالتَّخْريب ، وَذلِك لِكوْنه يَعلَم أنَّ إِيمانهم بِاللَّه ، يَعنِي كُفْرُهم بِسلْطانه وقانونه ، وَمِن ثمَّ صبَّ عَليهِم جام غَضبِه وتهْديده ، رَجَاء أن يعودوا لِعبادته ، أيْ للخُضوع لَه ، فَكَان رَدهُم صاعقًا لَه صَعقَة لََا تَقِل فِي قُوَّتهَا عن صَعقَة إِيمانهم اَلأُولى ، حَيْث قَالُوا :

﴿قالوا لا ضَيرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ۝إِنّا نَطمَعُ أَن يَغفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَن كُنّا أَوَّلَ المُؤمِنينَ﴾

[الشعراء: ٥٠-٥١]

﴿قالوا إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ۝وَما تَنقِمُ مِنّا إِلّا أَن آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتنا رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَتَوَفَّنا مُسلِمينَ﴾

[الأعراف: ١٢٥-١٢٦]

ولو أَنهُم رَضخُوا لِسلْطة فِرْعوْن لَكانوا فَشلُوا فِي الاخْتبار ، ولَكانوا مِن أَصحَاب النَّار . 

نَحْن أيْضًا عِنْدمَا نُسلم لِلَّه ربَّ العالمين فِعْلا ، فَهذَا يَعنِي اَلخُروج على سُلطات بُلْداننَا ، أيْ اَلخُروج على قَوانِين الدَّوْلة والْمجْتمع ، وَهذَا لَن يَكُون أمْرًا مَقبُولا مِن طرف بُلْداننَا ، لِذَلك مِن الوارد أن نَتَعرَّض لِلتَّعْذيب والْقَتْل ، وَهذِه بِشارة لِمَن صَبَر ، لِأَنه سَيجِد نَفسَه ضِمْن أَهْل الجنَّة الَّذين ذُكرُوا فِي آية البقَرة :

﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾ 

أَمَّا من لَم يَكُن مُؤْمِنا حقًّا فَإنَّه سيكْفر بِخضوعه لِهَذه الأنْظمة والْعياذ بِاللَّه ، فَيكُون مصيره النَّار أَعَاذنَا اَللَّه وإيَّاك مِنهَا . 

فضْلا عَمَّا سبق هُنَاك بَعْض الاسْتنْتاجات والتَّطْبيقات العمليَّة اَلتِي يَغفُل عَنهَا كثير مِن النَّاس اليوْم وَالتِي مِن أهمِّهَا :

الإسْلام قَرَار 

الإسلام قرار

إِنَّ مِن أَكثَر الاسْتنْتاجات مِن تَعرِيف الإسْلام السَّابق بَداهَة ، كَون الإسْلام قَرَار يَجِب أن يتَّخذه المرْء ، كمَا يَظهَر جليًّا فِي قَوْل إِبْراهيم صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم مُجيبًا لِرَبه :

﴿إِذ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسلِم قالَ أَسلَمتُ لِرَبِّ العالَمينَ﴾

[البقرة: ١٣١]

فقوْله أَسلَمت ، يَعنِي أَنَّه اِتَّخذ القرَار بِأن يُسلِّم نَفسَه لِلَّه ربَّ العالمين ، وَهذَا يَعنِي أَمرَين فِي غَايَة الأهمِّيَّة :

الأوَّل أَنَّه لا إِسلَام بِالْوراثة ، فَكونِي وُلدتُ مِن أُسرَة مُسْلِمة ، لا يَعنِي ذَلِك أَننِي سَوْف أَكُون مُسْلِما بِالضَّرورة ، بل يَجِب أن أَتخِذ القرَار بِأنْ أُسلِم لِلَّه سُبْحانه ، هذَا القرَار يَسهل على الطِّفْل اَلصغِير لِمَا فَطر اَللَّه عليْه خَلقَه مِن تَقبُّل لِلْإسْلام بِشَكل فُطْرِي . 

وَلكِن إِذَا كان دِين اَلأُسرة غَيْر الإسْلام اَلصحِيح ، مع كوْنهَا تَدعِي الإسْلام ، فَإِن الطِّفْل سَوْف يُخَالِف فِطْرته حِين يُقلِّد والدَيْه ، ودليل ذَلِك كَوْن المرْء يَعرِف مِن فِطْرته أنَّ الإسْلام هُو اَلقُرآن والسُّنَّة فقط ، وَلَكنَّه سَوْف يَجِد أنَّ التَّصَوُّر اَلْعام لَدى عُلَماء مُجتمعِه أنَّ الإسْلام هُو اَلقُرآن والسُّنَّة واجْتهادات العلماء ، كمَا صَرَّح بِذَلك غَيَّر وَاحِد ، مِنْهم الجويْني فِي قَولِه : 

فَإِن مُعظَم الشَّريعة صدر عن الاجْتهاد والنُّصوص لََا تَفِي بِالْعَشْر مِن مِعشَار الشَّريعة.

[الجويني، أبو المعالي، البرهان في أصول الفقه، ٣٧/٢]

فيضْطرُّ إِلى مُخَالفَة فِطْرته ، واتِّبَاع دِين والدَيْه ، وَمِن ثمَّ فَهُو لَم يُسلم قطُّ ، لِأَنه لَم يَتخِذ قطُّ القرَار بِتسْلِيم نَفسِه لِلَّه وَحدَه . 

الثَّاني أنَّ قَرَار الإسْلام يَجِب أن يَنبَنِي على قَناعَة تَامَّة ، مَبنِية على أَدلَّة وَاضِحة ، لِأنَّ المرْء إِذَا قَرَّر الإسْلام تقْليدًا أو مُحابَاة لِأَحد ، فَإنَّه ساعتهَا لَم يُسلم حقًّا لِلَّه ، حَيْث أنَّ لِمَن يُقَلده نصيب فِيه . 

مثلا أَسلَم عَمْر تقْليدًا لِزَيد ، هذَا يَعنِي أنَّ لِزَيد هذَا سُلطَة مَعنوِية على عَمْر جعلتْه يَأخُذ قَرَار الإسْلام ، وَوجُود هَذِه السُّلْطة لِزَيد على عَمْر مُنَاف أصْلا لِلْإسْلام ، لِأنَّ الإسْلام ثَورَة على كُلِّ السُّلطات ، والْخضوع لِلَّه وَحدَه كمَا أسْلفْنَا . 

يُؤكِّد هذَا المعْنى قَولَه تَعالَى : 

لا إِكراهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى لَا انفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ  

[البقرة: ٢٥٦]

فالتَّقْليد صُورَة مِن صُوَر الإكْراه اَلذِي يغيب قَناعَة المرْء ، وَيفرِض عليْه قرارَات لَم يتَّخذْهَا بِمَلء إِرادَته ، وَينُص على هذَا حديث أَسمَاء :

عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ 

فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، 

قُلْتُ: آيَةٌ؟ 

فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ، 

فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي المَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: 

” مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ: أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ – مِثْلَ أَوْ – قَرِيبَ – لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ – مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ 

فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ – لاَ أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاَثًا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. 

وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ – لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ “

[البخاري، صحيح البخاري، ٢٨/١]

محلُّ الشَّاهد أنَّ اَلمُؤمن مُوقِن بنى إِيمانه على اَلأدِلة الواضحة ، أَمَّا المنافق المرْتاب فَهُو اَلذِي كان يُقلِّد النَّاس . 

وَإِن شاء اَللَّه سَوْف نَتَعلَّم مِن إِبْراهيم صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم فِي المقالات القادمة كَيْف يُمْكننَا أَخْذ قَرَار الإسْلام ، ومَا يَلْزَم لِذَلك مِن شُرُوط لا بُدَّ مِن تَوفرِها لِكيْ يَكُون المرْء صادقًا فِي قَرارِه الإسْلام لِلَّه .

الإسْلام مَحصُور فِي الوحْي 

الإسلام محصور في القرآن والسنة

نَستنْتِج مِن التَّعْريف السَّابق لِلْإسْلام أنَّ الإسْلام مَحصُور فِي اَلقُرآن والسُّنَّة ، قد كَمُل قَبْل وَفَاة رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، كمَا أخْبرَنَا رَبنَا عزَّ وجلَّ فِي قَولِه :

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

[الْمَائِدَةُ: ٣]

وعليْه فَكُل مَا أَنتَجه البشر مِن اِجْتهادات ، وآراء ، بَعْد وَفَاة رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم لَيْس مِن الإسْلام قوْلا واحدًا ، فالْإسْلام لَيْس حَصِيلَة أَربَعة عشر قَرْن ، ولَا يَزْداد مع الزَّمن ، ولَا يَضُره عدم عمل النَّاس بِه ، ولَا يزيده عمل النَّاس بِه ، فَهُو مَحصُور فِي رِسالة مُحَددَة ، نَزلَت على مُحمَّد بْن عَبْد اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ، ومَا سوَّاهَا لَيْس الإسْلام . 

إِنَّ هذَا الاسْتنْتاج رَغْم بداهَته يغيب على أَكثَر النَّاس ، فأغْلب النَّاس يَعتَقِد أنَّ الإسْلام خليط بَيْن الوحْي ، وبيْن اِجْتهادات العلماء ، بِاعْتبارهَا مُكوِّن أَساسِي لِلشَّريعة الإسْلاميَّة ، وَهذَا تَصوُّر بَاطِل مُنَاقِض لِآية المائدة السَّابقة ، حَيْث أَخبَر رَبنَا بِكمال الدِّين ، وَتَمام النِّعْمة ، فما أتى بَعْد ذَلِك لَيْس مِن الدِّين ، وَإِن شاء اَللَّه سَوْف نَرجِع إِلى هذَا الموْضوع بِشَيء مِن التَّفْصيل فِي المقالات القادمة بِإذْن اَللَّه .

خُطُورَة المعْصية 

إِذَا نظرْنَا إِلى تَعرِيف الإسْلام السَّابق اَلذِي هُو الانْقياد لِلَّه والتَّذلُّل ، ثُمَّ أردْنَا تطْبيقه على العاصي ، فَإِننَا نَستنْتِج بِوضوح أنَّ العاصي مُخِل بِعَقد الإسْلام اَلذِي هُو السَّمْع والطَّاعة ، وَهنَا يَبرُز أحد أَكبَر تناقضاتنَا مع تَعرِيف الإسْلام . 

فَأنَا إِذَا سألْتك هل يُسمَّى العاصي وَقْت مُمارسته لِلْمعْصية مُسْلِما ، فَعلَى الرَّاجح سَوْف تَقُول نَعَم ، مع أَنَّك تُقِر بِأنَّ اَلمسْلِم تَعنِي اَلمطِيع ، فكيْف أَصبَح العاصي عِنْدك والْمطيع سِيَّان ؟ 

فَكر فِي الأمْر ، فالْإسْلام يَعنِي طَاعَة اَللَّه ، صحيح ؟ 

طَيِّب ، هل مَعصِية اَللَّه مِن الإسْلام ؟ 

طَيِّب ، كَيْف أَصبَح العاصي مُسْلِما ، وَهُو عَكْس اَلمسْلِم مَعْنى وَواقِعا ؟ 

نَعَم ، أَعلَم أنَّ أَغلَب النَّاس وَاقِع فِي المعاصي ومجاهر بِهَا ، وَلكِن هذَا لََا يجْعلهَا حقًّا ، ولَا يجْعلهَا ضِمْن مَا أَذِن اَللَّه بِه ، فَتَأمَّل جيِّدًا ، وانْتَبه فالْأَمْر جِدُّ خطير . 

لِلْأسف اَلشدِيد اِنتشَر فِي اَلأُمة فِكْر الإرْجاء ، لِدرجة أَننَا اِعْتدْنَا المعْصية حَتَّى صَارَت هِي الحالة الطَّبيعيَّة ، فقد قِيل لَنَا أَننَا نَبقَى مُسْلمِين مَهمَا فعَلنَا ، مَا لَم نقع فِي الشِّرْك ، ولم يُدْرِك القائل أنَّ مِن جِنْس الشِّرْك عِبادة الهوى المتمثِّل فِي الإصْرار على مَعصِية اَللَّه ، وَإلَّا فمَا سَبب كُفْر إِبْليس غَيْر أَنَّه أبى أن يُطيع اَللَّه ؟ 

ومَا هِي اَلآلِهة اَلتِي عبدهَا أَصحَاب السَّبْتَ حِين اِصْطادوا يَوْم السَّبْتِ ، فجعلَهم اَللَّه قِرَدة خَاسئِين :

﴿وَلَقَد عَلِمتُمُ الَّذينَ اعتَدَوا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كونوا قِرَدَةً خاسِئينَ۝فَجَعَلناها نَكالًا لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظَةً لِلمُتَّقينَ﴾

[البقرة: ٦٥-٦٦]

لِذَلك يَجِب أن نُدْرِك أنَّ مَعصِية اَللَّه لَيسَت بِالْأَمْر اَلمُرخص بِه ، بل هِي مُنَاقضَة لِعَهد الإسْلام المتمثِّل فِي قَولِه تَعالَى :

﴿وَاذكُروا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم وَميثاقَهُ الَّذي واثَقَكُم بِهِ إِذ قُلتُم سَمِعنا وَأَطَعنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾

[المائدة: ٧]

وَمِن ثمَّ فَإِن وَقْت مُمَارسَة الشَّخْص لَهَا لا يُسمَّى مُسْلِما ، بل يُسمَّى العكْس ، عاصيًا ، لِأَنه فِعْلا عاصٍ لِأَمر اَللَّه عزَّ وجلَّ ، أليْس كَذلِك ؟ 

لَعلَّك تَسأَل كَيْف نَفعَل ، ونحْن نَقَع فِي المعاصي لَيْل نَهَار ؟ 

والْجواب نَتُوب إِلى اَللَّه ، ونسْتغْفر ، ولَا نُصِر على مَعصِية اَللَّه ، فالْمؤْمن لَيْس شخْصًا مَعصُوما مِن أن يقع فِي المعْصية ، وَلَكنَّه يَستغْفِر ، وَيتُوب ، ولَا يُصِر أبدًا على مَعصِية اَللَّه ، كمَا قال رَبنَا عزَّ وجلَّ :

﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ۝الَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالكاظِمينَ الغَيظَ وَالعافينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ۝وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ۝أُولئِكَ جَزاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم وَجَنّاتٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها وَنِعمَ أَجرُ العامِلينَ﴾

[آل عمران: ١٣٣-١٣٦]

وليْس ذَلِك الشَّخْص اَلذِي يُصِر على مَعصِية اَللَّه ، فَذلِك هُو من قال اَللَّه فِيه :

﴿وَيلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثيمٍ۝يَسمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتلى عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُستَكبِرًا كَأَن لَم يَسمَعها فَبَشِّرهُ بِعَذابٍ أَليمٍ۝وَإِذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ مُهينٌ۝مِن وَرائِهِم جَهَنَّمُ وَلا يُغني عَنهُم ما كَسَبوا شَيئًا وَلا مَا اتَّخَذوا مِن دونِ اللَّهِ أَولِياءَ وَلَهُم عَذابٌ عَظيمٌ۝هذا هُدًى وَالَّذينَ كَفَروا بِآياتِ رَبِّهِم لَهُم عَذابٌ مِن رِجزٍ أَليمٌ﴾

[الجاثية: ٧-١١]

إِنَّ مَوضُوع المعْصية رَغْم بداهَته إِلَّا أَنَّه شَائِك جِدًّا نظرًا لِكثْرة الشُّبهات اَلتِي تَلفُّه ، لِذَلك أَنصَحك بِمراجعة بَحْث خُطُورَة المعْصية حَيْث ناقشْنَا بِالتَّفْصيل مَوضُوع المعْصية والشُّبهات المتعلِّقة بِه .

بَيْع الدُّنْيَا وشراء اَلآخِرة 

مِن التَّطْبيقات الصَّريحة لِتعْرِيف الإسْلام بَيْع الدُّنْيَا ، وشراء اَلآخِرة ، فالْمسْلم حِين قَرَّر بَيْع نَفسِه وَمالِه لِلَّه ، فَإِنمَا يَرجُو الجنَّة اَلتِي هِي فِي اَلآخِرة ، لِذَلك إِرادة الدُّنْيَا هِي مُنَاقضَة صَرِيحَة لِهَذه البيْعة ، وَمِن ثمَّ اِستحَق صاحبهَا اَلوعِيد اَلشدِيد كمَا فِي قَولِه تَعالَى :

﴿مَن كانَ يُريدُ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمالَهُم فيها وَهُم فيها لا يُبخَسونَ۝أُولئِكَ الَّذينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وَباطِلٌ ما كانوا يَعمَلونَ﴾  

[هود: ١٥-١٦]

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى

﴿مَن كانَ يُريدُ العاجِلَةَ عَجَّلنا لَهُ فيها ما نَشاءُ لِمَن نُريدُ ثُمَّ جَعَلنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاها مَذمومًا مَدحورًا۝وَمَن أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعيَها وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعيُهُم مَشكورًا﴾  

[الإسراء: ١٨-١٩]

لِذَلك مَا نرى مِن تَهافَت على الدُّنْيَا ، وانْشغال بِهَا ، هُو خِلَاف مَا يَنبَغِي أن يَكُون عليْه اَلمسْلِم الصَّادق فِي قَرارِه مع اَللَّه ، وسببه الأوَّل فِي ذَلِك اَلبُعد عن اَلقُرآن والسُّنَّة ، فَمَن تَأمَل اَلقُرآن والسُّنَّة ، يَجِد أنَّ اَلآخِرة نَقِيضَة الدُّنْيَا ، بِحَيث يَستحِيل إِرادتهمَا فِي آن وَاحِد ، وَمِن أَدلَّة ذَلِك قَولُه تَعالَى :

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها فَتَعالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَراحًا جَميلًا۝وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَالدّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلمُحسِناتِ مِنكُنَّ أَجرًا عَظيمًا﴾  

[الأحزاب: ٢٨-٢٩]

فلم يضع لَهُن خِيَار إِرادة الحيَاة الدُّنْيَا وزينتهَا ، والدَّار اَلآخِرة فِي نَفْس الوقْتِ ، فهما نقيضَان يَستحِيل إِرادتهمَا فِي آن وَاحِد . 

كَذلِك المتأمِّل لِلْقرْآن يُدْرِك بِوضوح أنَّ هَذِه الدُّنْيَا عَدُو حَقيقِي ، مَن غرَّته دخل النَّار ، كمَا نَصَّت على ذَلِك آيات كَثِيرَة مِنهَا قَولُه تَعالَى :

﴿وَنادى أَصحابُ النّارِ أَصحابَ الجَنَّةِ أَن أَفيضوا عَلَينا مِنَ الماءِ أَو مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الكافِرينَ۝الَّذينَ اتَّخَذوا دينَهُم لَهوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتهُمُ الحَياةُ الدُّنيا فَاليَومَ نَنساهُم كَما نَسوا لِقاءَ يَومِهِم هذا وَما كانوا بِآياتِنا يَجحَدونَ﴾  

[الأعراف: ٥٠-٥١]

وَلَعلنَا إِن شاء اَللَّه نَرجِع إِلى مَوضُوع اَلآخِرة والدُّنْيَا بِشَيء مِن التَّفْصيل فِي المقالات القادمة بِإذْن اَللَّه .

التَّمَرُّد على سُلطات البشر

التمرد على سلطات البشر

ذكرْنَا آنفًا أنَّ الإسْلام لِلَّه ، يَعنِي اَلخُضوع لَه حصْريًّا ، وَهذَا يَعنِي التَّمَرُّد على سُلطات البشر وَهنَا تَكمُن المشْكلة اَلتِي مِن النَّادر أن نَتَحدَّث عَنهَا ، فالْواحد مِنَّا فِي الواقع خَاضِع لِمجْموعة مِن السُّلطات اَلتِي لَم يَأذَن بِهَا اَللَّه ، مِن ذَلِك : 

سُلطَة القانون اَلوضْعِي : 

اَلذِي يَخضَع لَه المرْء مع كَونِه لَيْس شرع اَللَّه ، فَتجِد الواحد مِنَّا خاضعًا فِي جُلِّ مَناحِي الحيَاة لِقانون كَتبَه مَجهُول بِالنِّسْبة إِلَيه ، ويتحاكم إِلَيه ، وَهُو مع ذَلِك لا يرى نَفسَه مُشْرِكا بِاللَّه ، رَغْم كَونِه إِذَا سُئِل عَمَّا هُو الإسْلام ؟ 

لَقَال اَلخُضوع لِلَّه وَحدَه ، وَإذَا سُئِل عن القانون اَلوضْعِي هل هُو شرع اَللَّه ؟ 

لَقَال لا ، لَيْس شرع اَللَّه .

ومع ذَلِك هُو خَاضِع لَه ولَا حَوْل ولَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه . 

سُلطَة المجْتمع : 

تعتبَر سُلطَة المجْتمع المتمثِّلة فِي العادات والتَّقاليد ، مِن أَقوَى السُّلطات اَلتِي يَخضَع لَهَا المرْء اليوْم ، فالْمَرْء اليوْم فِي أَغلَب الأحْيان خَاضِع لِعادَات مُجتمعِه وتقاليده ، بِغضِّ النَّظر عن حِلِّيتهَا مِن حُرْمتِهَا ، لا يَستطِيع أن يَخرُج عَنهَا ، وَإلَّا لَوقَع عليْه عِقَاب المجْتمع المتمثِّل فِي النَّبْذ وَفَساد السُّمْعة . 

وهناك سُلطات أُخرَى لََا يَتسِع المقَام لِذكْرِهَا ، تناولتُهَا بِشَيء مِن التَّفْصيل فِي بَحْث عن تَعرِيف العبادة

أَعتَقد أَنَّك الآن تُدْرِك سبب الذِّلَّة والْمسْكنة اَلتِي ضرب اَللَّه على هَذِه اَلأُمة ، لِمَا ترى مِن فرق شَاسِع بَيْن حَقِيقَة الإسْلام ، وبيْن وَاقعِنا اَلذِي يُنَاقِض هَذِه الحقيقة مِن عِدَّة وُجُوه ، لِذَلك أَيهَا الفاضل عليْنَا مراجعة وَاقعِنا حَتَّى نُلائِمه مع الإسْلام الحقيقيِّ اَلذِي يُرْضِي رَبنَا عزَّ وجلَّ . 

فِي المقَال القادم سَوْف نَتَعرَّف على الإيمان الحقيقيِّ ، المرْضي عِنْد اَللَّه ، إِن شاء اَللَّه ، أَسأَل اَللَّه أن يجْعلَني وإيَّاك مِن المؤْمنين الصَّادقين وَآخَر دعْوانَا أنَّ الْحمْد لِلَّه ربِّ الْعالمين . 

قراءة وتحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-