بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ مُحَاوَلَةِ اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ وَاجَهْتُ سُؤَالًا فِقْهِيًّا جَعَلَنِي أُغَيِّرُ مَفَاهِيمِي عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، السُّؤَالُ كَانَ يَقُولُ:
كَيْفَ أَفْعَلُ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَضِيَّةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، بَيْنَمَا الْمَالِكِيَّةُ يَكْرَهُونَ الْإِتْيَانَ بِهَا؟
لَقَدْ صَدَمَنِي هَذَا السُّؤَالَ، فَقَدْ كُنْتُ قَبْلَهُ أَعْتَقِدُ كَمَا يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ مُجَرَّدُ مَدَارِسَ إِسْلَامِيَّةٍ، الِاخْتِلَافُ بَيْنَهَا اخْتِلَافٌ بَسِيطٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةٍ مُغَايِرَةٍ تَمَامًا، فَالْمَذَاهِبُ تَخْتَلِفُ فِي صَلَاتِهَا، وَالصَّلَاةُ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ.
إِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي قَضِيَّةِ الْبَسْمَلَةِ يَجْعَلُ الشَّافِعِيَّ لَا يُصَلِّي وَرَاءَ الْمَالِكِيِّ، وَيَعْتَبِرُ صَلَاتَهُ بَاطِلَةً، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ جِدًّا، وَلَيْسَ كَمَا كَانَ يُرَوِّجُ لَنَا مِنْ طَرَفِ الدُّعَاةِ وَالْخُطَبَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْفَكُّوا يُكَرِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ اخْتِلَافٌ سَطْحِيٌّ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، الْمَرْءُ فِيهِ بِالْخِيَارِ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ الشَّرَارَةَ الَّتِي أَطْلَقَتْ بَحْثًا جَادًّا لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْمَصَادِرِ الْمَوْثُوقَةِ، كَمَا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مُؤَشِّرًا عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ مِن قَبُولِ مَا يَقُولُهُ الدُّعَاةُ وَالْوُعَّاظُ عُمُومًا، حَتَّى يَأْتُوا بِالدَّلِيلِ السَّاطِعِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْكَ خُلَاصَةُ بَحْثِي أَعْرِضْهَا عَلَيْكَ عَبْرَ الْمَحَاوِرِ التَّالِيَةِ:
- تَعْرِيفُ الْمَذْهَبِ لُغَةً
- تَعْرِيفُ الْمَذْهَبِ الْفِقْهِيِّ اصْطِلَاحًا
- كَيْفَ تَشَكَّلَتْ الْمَذَاهِبُ وَنُبْذَةٌ عَنْ تَارِيخِ الْمَذَاهِبِ
- جَوْهَرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَاقَتُهُ بِالْإِسْلَامِ
تَعْرِيفُ الْمَذْهَبِ لُغَةً
ذَهَبَ يَذْهَبُ ذَهَابًا وَمَذْهَبًا، فَالْمَذْهَبُ إِذَنْ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ فِعْلِ ذَهَبٍ، وَهُوَ يَعْنِي الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُهُ الذَّاهِبُ.
كَمَا أَنَّهُ يَعْنِي أَيْضًاً الِاتِّجَاهَ الْفِكْرِيَّ، فَنَقُولُ تَفَرُّقَ النَّاسِ فِي أَمْرِ كَذَا إِلَى عِدَّةِ مَذَاهِبَ، أَيْ إِلَى عِدَّةِ اتِّجَاهَاتٍ فِكْرِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ لُغَةً بِالْمَذْهَبِ الْفِقْهِيِّ، حَيْثُ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهَا إِلَى عِدَّةِ وُجُهَاتِ نَظَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلُّ وُجْهَةِ نَظَرٍ مِنْهَا تُعَدُّ مَذْهَبًا لِصَاحِبِهَا، وَمِنْ هُنَا أَتَتْ تَسْمِيَةُ الْمَذْهَبِ.
تَعْرِيفُ الْمَذْهَبِ الْفِقْهِيِّ اصْطِلَاحًا
يَعَرِّفُ الْأُصُولِيُّونَ الْمُذْهَبَ بِأَنَّهُ اجْتِهَادَاتُ الْمُجْتَهِدِ وَأُصُولِهُ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي اجْتِهَادِهِ، كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ:
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا مَذْهَبُ مَالِكٍ؟ فَقُلْ: مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالْحِجَّاجِ الْمُثْبِتَةِ لَهَا.
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْقَرَافِيُّ، الْإِحْكَامُ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفَاتِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ م 1 ص 195
وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الدُّرْدِيرِيِّ
وَأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ مَثَلًا عِبَارَةٌ عَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَيْ الَّتِي بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيلِهَا فَالْأَحْكَامُ الَّتِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَا تُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الدُّسُوقِيُّ، حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ م1 ص 19
إِذْنُ الْمَذْهَبِ هُوَ اجْتِهَادَاتُ الْمُجْتَهِدِ وَشُرُوطُهُ وَمَوَانِعُهُ وَاَلَّتِي مَحَلُّهَا الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ، وَاَلَّتِي هِيَ إِمَّا نَصٌّ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ الثُّبُوتِ، أَوْ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةِ كَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ.
تُسْتَنْبَطُ أُصُولُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي فَتَاوِيهِ بِاسْتِقْرَاءِ فَتَاوِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَتَسَوَّعُ الْمَذْهَبُ إِلَى كُلِّ الِاجْتِهَادَاتِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الِاجْتِهَادَاتُ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ، أَمْ لِتَلَامِيذِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ مَا لَا يَنْحَصِرُ فِي اجْتِهَادَاتِهِ هُوَ فَقَطْ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ اجْتِهَادَاتُ تَلَامِيذِهِ الَّذِينَ اجْتَهَدُوا وَفْقَ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْأُصُولِيُّونَ مِنْ فَتَاوِيهِ، فَعِنْدَمَا نَقُولُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّنَا نَقْصِدُ بِهِ اجْتِهَادَاتِ كُلِّ مُجْتَهِدِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
كَيْفَ تَشَكَّلَتِ الْمَذَاهِبُ وَنُبْذَةٌ عَنْ تَارِيخِ الْمَذَاهِبِ
لَقَدْ شَهِدَتْ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَوَسُّعًا جُغْرَافِيًّا سَرِيعًا بِسَبَبِ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّرِيعَةِ، فَفِي فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ فُتِحَتْ بِلَادُ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةٌ وَخُرَاسَانَ وَأَقَالِيمُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى، هَذَا التَّوَسُّعُ السَّرِيعُ فِي حُدُودِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَمْ يُتِحْ الْفُرْصَةَ الْكَافِيَةَ لِتَعَلُّمِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ كَمَا تَعَلَّمَهُ الْجِيلُ الْأَوَّلُ، وَمِنْ هُنَا بَرَزَتْ الْحَاجَةُ إِلَى مُفْتِينَ يُفْتُونَ النَّاسَ فِيمَا يَسْتَجِدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْدَاثٍ.
الْمُشْكِلَةُ الَّتِي كَانَتْ مَطْرُوحَةً هِيَ عَدَمُ تَوَفُّرِ الْقَدْرِ الْكَافِي مِنْ الْمُفْتِينَ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا النَّاسَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ لَمْ يَنْتَشِرْ كَانْتِشَارِ الْجِهَادِ.
هَذَا الْفَرَاغُ وَقِلَّةُ الْمَعْرِفَةِ الدِّينِيَّةِ وَخُصُوصًاً التَّهَاوُنَ بِخُطُورَةِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ الْمُتَمَثِّلِ فِي الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَدَّتْ إِلَى بُرُوزِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ إِذَا سُئِلُوا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ نَصٌّ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ حِينَ قَالَ بِحَسَبِ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ:
آخُذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَمَا لَمْ أَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، أَخَذْتُ بِقَوْلِ أَصْحَابِهِ، آخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ، وَأَدَعُ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ، وَلَا أَخْرِجُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ، أَوْ جَاءَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَدَدَ رِجَالًا، فَقَومٌ اجْتَهَدُوا فَأَجْتَهِدُ كَمَا اجْتَهَدُوا
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِي، تَارِيخُ بَغْدَادَ ت بَشَّارَ الْجُزْءِ 13 ص 365
أَيْ أَنَّ عِنْدَنَا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ مُفْتِينَ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ أَوْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ إِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُنَا كَانَتْ الْكَارِثَةُ الَّتِي تَسَبَّبَتْ فِي نَشْأَةِ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ الْفَتْوَى بِغَيْرِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾
[الأعراف: 33]
ولقوله:
﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَمَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾
[النحل: 116-117]
وَهِيَ سَبَبُ الضَّلَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا
البخاري، صحيح البخاري م1 ص 31
وَنَظَرًا لِكَوْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَصَّلَ كُلَّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، فَإِنَّ فَتَاوِيَ هَؤُلَاءِ الْمُفْتِينَ سَوْفَ تَنَاقُضُ لَا مَحَالَةَ وَحْيَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَهَذَا مَا حَدَثَ بِالْفِعْلِ، حَيْثُ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْكَثِيرَ مِنْ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهَا مُرْتَبِطٌ بِالْإِيمَانِ مَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَيْهَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ تَارِيخَ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
ظُهُورُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ بِالْعِرَاقِ وَالَّذِينَ أَشهَرُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، أَدَّتْ إِلَى رِدَّةِ فِعْلٍ قَوِيَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدْ حَذَّرُوا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ، مِنْ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِسَنَدِهِ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَادَ الدِّينَ , كَادَ الدِّينَ ،. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: يُذْكَرُ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَلَدِكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ , قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِبَلَدِكُمْ أَنْ تُسْكَنَ.
الْعُقَيْلِي، الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرُ م 4 ص 268
وَلَكِنْ بِالرَّغْمِ مِنْ رِدَّةِ فِعْلِهِمْ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ بَقِيَ لَهُمْ صَوْتًا خُصُوصًاً عِنْدَ عَجْزِ خُصُومِهِمْ عَنِ الْفَتْوَى فِي كَثِيرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي افْتَرَضُوهَا، لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ قَدْ اعْتَادُوا عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآيَاتِ، مِمَّا جَعَلَ الْكَثِيرَ مِنْ الْعَامَّةِ يُقَلِّدُونَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَيَرَوْنَهُمْ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ نَظَرًا لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ إِجَابَاتٍ عَلَى أَسْئِلَتِهِمْ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صَوَابِ تِلْكَ الْإِجَابَاتِ مِنْ عَدَمِهَا، فَأَهْلُ الرَّأْيِ أَنْفُسِهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا الصَّوَابُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ:
عَنْ مُزَاحِمِ بْنِ زُفَرَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ هَذَا الَّذِي تَفْتِي، وَالَّذِي وَضَعْتَ فِي كُتُبِكَ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ؟ قَالَ: فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ!
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِي، تَارِيخُ بَغْدَادَ م 13 ص 402
بَعْدَ وَفَاةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَدَلَ أَنْ يُمَارِسَ تَلَامِيذُهُ نَبْذَ التَّقْلِيدِ وَالرَّأْيِ تَعَصَّبُوا لِفَتَاوِيهِ، وَحَاوَلُوا تَقْعِيدَهَا وَاسْتِنْبَاطَ الْأُصُولِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي مُوَاجَهَةِ تَلَامِيذِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَتْ تِلْكَ نَوَاةُ تَشَكُّلِ الْمَذَاهِبَ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِيمَا بَعْدُ، فَكُلُّ عَالِمٍ لَهُ تَلَامِيذٌ يُحَاوِلُ تَلَامِيذُهُ التَّقَيُّدَ بِفَتَاوِيهِ وَتَأْصِيلِهَا، وَبِالتَّالِي خَلِقِ مَذْهَبًا لَهُ خَاصًّا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ كَثُرَتِ الْمَذَاهِبُ حَتَّى زَادَتْ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَكِنَّ أَغْلَبَهَا اخْتَفَى، وَبَقِيَ مِنْهَا فَقَطْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعَرِفَةُ بَيْنَ النَّاسِ.
إِنَّ الْمَذَاهِبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَنْتَشِرَ بَيْنَ النَّاسِ لَوْلَا تَبَنِّي السُّلْطَةِ السِّيَاسِيَّةِ لَهَا فَهِيَ الَّتِي فَرَضَتْهَا عَلَى النَّاسِ فَرْضًا وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قُوَّةِ السِّلَاحِ وَمِنْ خِلَالِ الْهِبَاتِ وَالْقُوَّةِ الْإِعْلَامِيَّةِ حَيْثُ تُسَاعِدُ عَلَى نَشْرِ كُتُبِ كُلِّ مَذْهَبٍ
ثُمَّ لَمَّا قَامَ هَارُونُ الرَّشِيدُ فِي الْخِلَافَةِ، وَوَلَّى الْقَضَاءَ أَبَا يُوسُفَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَعْدَ سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، أَصْبَحَتْ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يُوَلِّي بِبِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَالشَّامِ وَمِصْرَ - إِلَى أَقْصَى عَمَلٍ إِفْرِيقِيَّةٍ - إِلَّا مَنْ أَشَارَ بِهِ، وَكَانَ لَا يُوَلِّي إِلَّا أَصْحَابَهُ وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى مَذْهَبِهِ، فَاضْطُرَّتْ الْعَامَّةُ إِلَى أَحْكَامِهِمْ وَفَتَاوَاهُمْ، وَفَشَا الْمَذْهَبُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَشُوًا عَظِيمًا.
كَمَا فَشَا الْمَالِكِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ بِسَبَبِ تَمَكُّنِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْحَكَمِ الْمُنْتَصِرِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَذْهَبَانِ انْتَشَرَا فِي بَدْءِ أَمْرِهِمَا بِالرِّئَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ: الْحَنَفِيِّ بِالْمَشْرِقِ، وَالْمَالِكِيُّ بِالْأَنْدَلُسِ
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 51
ثُمَّ لَمَّا قَامَتْ الدَّوْلَةُ الْأَيُّوبِيَّةُ بِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ سَلَاطِينِهَا شَافِعِيَّةٌ، قَضَوْا عَلَى التَّشَيُّعِ فِيهَا، وَأَنْشَأُوا الْمَدَارِسَ لِلْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 57
وَفِي " نَيْلِ الِابْتِهَاجِ " أَنَّ أَهْلَ الْأَنْدَلُسِ الْتَزَمُوا مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ الطَّبَقَةَ الْأُولَى مِمَّنْ لَقُوا الْإِمَامَ مَالِكًا، كَزِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْغَازِي بْنِ قَيْسٍ، وَقُرْعُوسِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَنَحْوِهِمْ، فَنَشَرُوا مَذْهَبَهُ، وَأَخَذَ الْأَمِيرُ هِشَامٌ النَّاسَ بِهِ، فَالْتَزَمُوهُ وَحُمِلُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، إِلَّا مَنْ لَاَ يُؤْبَهُ لَهُ
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 64
وَلَمَّا قَامَتْ دَوْلَةُ بَنِي تَاشِفِينَ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَتَوَلَّى ثَانِيهِمْ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ اشْتَدَّ إِيثَارُهُ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ. فَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا فِي جَمِيعِ مَمْلَكَتِهِ دُونَ مُشَاوَرَةِ الْفُقَهَاءِ، وَأَلْزَمَ الْقُضَاةَ بِأَلَّا يَبَتُّوا حُكُومَةً فِي صَغِيرِ الْأُمُورِ وَكَبِيرِهَا إِلَّا بِمَحْضَرِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَعَظُمَ أَمْرُ الْفُقَهَاءِ. وَلَمْ يَكُنْ يَقْرُبُ مِنْهُ، وَيَحْظَى عِنْدَهُ إِلَّا مَنْ عَلِمَ مَذْهَبَ مَالِكٍ، فَنَفَقَتْ فِي زَمَنِهِ كُتُبَ الْمَذْهَبِ، وَعُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا وَنُبِذَ مَا سِوَاهَا. وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى نُسِيَ النَّظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ - صَلََّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعْتَنِي بِهِمَا كُلَّ الِاعْتِنَاءِ
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 67
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ، حَتَّى وَلِيَ قَضَاءَ دِمَشْقَ بَعْدَ قَضَاءِ مِصْرَ أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، فَأَدْخَلَ إِلَيْهَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَحَكَمَ بِهِ، وَتَبِعَهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْقُضَاةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَهُ الشَّامُ، وَكَانَ يَهِبُ لِمَنْ يَحْفَظُ " مُخْتَصَرَ الْمُزَنِيِّ " مِائَةَ دِينَارٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 74
ثُمَّ بَعْدَ فَرْضِهَا عَلَى النَّاسِ وَرِثَتْهَا الْأَجْيَالُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَصَارَ مِنْ الصَّعْبِ أَنْ تَجِدَ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَانْدَثَرَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَحْيُ لَمْ يَعِدْ مَصْدَرَ الْعِلْمِ، فَقَدْ حَلَّتْ مَحَلَّهُ الْمُتُونُ الْمَذْهَبِيَّةُ.
هَذِهِ الْفُرْقَةُ فِي الدَّيْنِ لَابُدَّ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهَا صَدَّامٌ بَيْنَ الْفِرَقِ، فَالْحَرْبُ دَوْمًا سَبَبُهَا الِاخْتِلَافُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ
﴿ وَلَو شاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلَ الَّذينَ مِن بَعدِهِم مِن بَعدِ ما جاءَتهُمُ البَيِّناتُ وَلكِنِ اختَلَفوا فَمِنهُم مَن آمَنَ وَمِنهُم مَن كَفَرَ وَلَو شاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفعَلُ ما يُريدُ﴾
[البقرة: 253]
وَهَذَا مَا حَدَثَ بِالْفِعْلِ، فَقَدْ نَشَأَتْ الْحُرُوبُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ كَمَا هُوَ مُسَطَّرٌ فِي التَّارِيخِ:
وَفِي هَرَاةَ وَسِجِسْتَانَ وَسَرْخَسْ كَانَتْ تَقَعُ فِيهَا عَصَبِيَّاتٌ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، تُرَاقُ فِيهَا الدِّمَاءُ وَيَدْخُلُ بَيْنَهُمْ السُّلْطَانُ.
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِ 75
وَفِي " مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ " لِيَاقُوتَ: «أَنَّ أَهْلَ الرَّيِّ كَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ: شَافِعِيَّةً وَهُمْ الْأَقَلُّ، وَحَنَفِيَّةٌ وَهُمْ الْأَكْثَرُ، وَشِيعَةٌ وَهُمْ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ، فَوَقَعَتْ الْعَصَبِيَّةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، فَتَضَافَرَ عَلَيْهِمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَتَطَاوَلَتْ بَيْنَهُمْ الْحُرُوبُ حَتَّى لَمْ يُتْرُكُوا مِنْ الشِّيعَةِ مَنْ يُعْرِفُ.
ثُمَّ وَقَعَتِ الْعَصَبِيَّةُ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَكَانَ الظُّفْرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، هَذَا مَعَ قِلَّتِهِمْ. فَخَرِبَتْ مَحَالُ الشِّيعَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَبَقِيَتْ مَحَلَّةُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ أَصْغَرُ مَحَالِّ الرَّيِّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الشِّيعَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِلَّا مَنْ يُخْفِي مَذْهَبَهُ
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِ 77
وَقَالَ عَنْ الْقَيْرَوَانِ: لَيْسَ فِي أَهْلِهَا غَيْرُ حَنَفِيٍّ وَمَالِكِيٍّ مَعَ أُلْفَةٍ عَجِيبَةٍ، لَا شَغَبَ بَيْنَهُمْ وَلَا عَصَبِيَّةَ.
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ ص 79
وَالسَّبَبُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ فِي الْقَيْرَوَانِ كَانَ مَذْهَبَ الْأُسْرَةِ الْحَاكِمَةِ بَيْنَما الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيِّ كَانَ مَذْهَبَ الْعَامَّةِ، لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ مِنْ الْأَشْيَاعِ مَا يُوقِدُ نَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ.
فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ وَرِثْنَا الْمَذَاهِبَ عَنِ الْأَجْيَالِ السَّابِقَةِ، وَلِكَيْ لَا نَخْرُجَ عَلَى الْمَأْلُوفِ فَإِنَّ الْكُتَّابَ لَمْ يَنْفَكُّوا يُرَقِعُونَ لِلْمَذَاهِبِ، تَارَةً بِالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ كَحَدِيثِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَتَارَةً بِإِيهَامِ السَّامِعِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ تَطَوُّرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْفَتْوَى فِي الْإِسْلَامِ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ لَمْ يَسْتَوْعِبَا كُلَّ الْأَحْدَاثِ تَفْصِيلًا وَحُكْمًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.
يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى حَقِيقَةٍ تَارِيخِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ مَعَ ازْدِهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَمَسُّكِ النَّاسِ بِهَا، كَانَتْ الْأُمَّةُ تَزْدَادُ ضَعْفًا وَتَشَتُّتًا، فَقَدْ انْقَسَمَتْ الْأُمَّةُ إِلَى عِدَّةِ دُوَيْلَاتٍ وَكَانَتْ لُقْمَةً سَائِغَةً لِلْأَعْدَاءِ حَيْثُ فَعَلُوا بِهَا الْأَفَاعِيلَ خُصُوصًاً فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَالسَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، وَكَانَتْ الْمَذَاهِبُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ فِي أَقْوَى حَالَاتِهَا، التَّأْلِيفُ فِيهَا مُسْتَمِرٌّ وَالْحُرُوبُ بَيْنَ اتِّبَاعِهَا قَائِمَةً، وَهَذَا أَمْرٌ كَانَ عَلَى الْعُقَلَاءِ أَنْ يَنْتَبِهُوا لَهُ، فَضَعَّفُهُمْ حِينَئِذٍ نَذِيرٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ كَمَا بَيَّنْتُ فِي مَقَالِ أَسْبَابِ تَخَلُّفِ الْإِمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
جَوْهَرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَاقَتُهُ بِالْإِسْلَامِ
نَظَرًا لِكَوْنِ الْمَذْهَبِ مَحِلَّهُ هُوَ الْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ كَمَا مَرَّ مَعَنَا، فَإِنَّنَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ أَنَّ الْمَذْهَبَ يَقُومُ عَلَى الطَّعْنِ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ لِلْأَحْكَامِ، بِحَيْثُ يَعْتَبِرُ أَلْفَاظَهُ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ نَحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ لِمَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَالطَّعْنِ فِي اسْتِيعَابِ الْوَحْيِ لِكُلِّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا وَحُكْمًا، وَلِذَلِكَ نَحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَقَدْ سَبَقَ وَنَاقَشَتْ هَذِهِ الدَّعَاوِي فِي بَحْثِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّفْصِيلِ.
بَعْدَ هَذَا الطَّعْنِ يَبْدَأُ التَّشْرِيعُ بِاسْمِ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّنَا بِالْمُحَصِّلَةِ يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ أَنَّ الْمَذْهَبَ دَينٌ يَقُومُ عَلَى عِدَّةِ مَصَادِرَ لِلتَّشْرِيعِ هِيَ أُصُولُهُ، وَلَهُ عِدَّةُ مُشَرِّعِينَ هُمْ مُجْتَهِدُو الْمَذْهَبِ، وَلَهُ إِمَامٌ مَتْبُوعٌ هُوَ إِمَامُ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ ثَمَّ لَهُ فِقْهٌ وَأَحْكَامُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ وَاَلَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ، وَلِذَلِكَ مَرَّتْ عَلَى الْأُمَّةِ فَتْرَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ عِدَّةِ قُضَاةٍ، كُلُّ قَاضٍ يَقْضِي بِحَسَبِ مَذْهَبِهِ
قَالَ الْمِقْرِيزِيُّ: فَلَمَّا كَانَتْ سَلْطَنَةُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيِّ، وَلِيَ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةُ أَرْبَعَةُ قُضَاةٍ وَهُمْ: شَافِعِيٌّ، وَمَالِكِيٌّ، وَحَنَفِيٌّ، وَحَنْبَلِيٌّ، فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي مَجْمُوعِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ مَذْهَبٌ يُعْرَفُ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ سِوَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَقِيدَةُ الْأَشْعَرِيِّ .
أَحْمَدُ تَيْمُورَ بَاشَا، نَظْرَةٌ تَارِيخِيَّةٌ فِي حُدُوثِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِ 85
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ لَا مُشَرِّعَ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ:
﴿أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾
[الشورى: 21]
وَلَيْسَ هُنَاكَ مَصْدَرٌ لِلتَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ :
﴿اتَّبِعوا ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعوا مِن دونِهِ أَولِياءَ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾
[الأعراف: 3]
وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ إِمَامٌ أَمِرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ الْحُجَّةَ غَيْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزًا حَكيمًا﴾
[النساء: 165]
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى الْمَذَاهِبِ الَّتي لَا عَلَاقَةَ لَها بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ أَصْلًا، قَدْ تَحَقَّقَ فِي مُتَّبِعِيهِم مَعَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ﴾
[الأنعام: 159]
وَمَا اخْتِلَافُ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ، شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ شَأْنُ سَلَفِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
﴿وَلَقَد آتَينا بَني إِسرائيلَ الكِتابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلَى العالَمينَوَآتَيناهُم بَيِّناتٍ مِنَ الأَمرِ فَمَا اختَلَفوا إِلّا مِن بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم إِنَّ رَبَّكَ يَقضي بَينَهُم يَومَ القِيامَةِ فيما كانوا فيهِ يَختَلِفونَ﴾
[الجاثية: 16-17]
وَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ لَيَسْلَمَ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ بِاتِّبَاعِ وَحْيِ اللَّهِ حَصْرًا اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ:
﴿ثُمَّ جَعَلناكَ عَلى شَريعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلا تَتَّبِع أَهواءَ الَّذينَ لا يَعلَمونَإِنَّهُم لَن يُغنوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَإِنَّ الظّالِمينَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقينَهذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يوقِنونَ﴾
[الجاثية: 18-20]
فَهَلْ أَنْتِ سَامِعٌ مُطِيعٌ مُؤْمِنٌ، أَمْ أَنَّكَ تَتْبِعُ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَيَتَّهِمُونَهُ بِالْغُمُوضِ وَالْقُصُورِ عَنْ اسْتِيعَابِ الْأَحْدَاثِ حُكْمًا وَتَفْصِيلًا؟