أسباب تخلف الأمة الإسلامية

أسباب تخلف الأمة الإسلامية

يحكى أن قرية كانت تعيش في رغد من العيش، حيث أعطاها الله أرضا خصبة كانوا يزرعونها، فتأتي المحاصيل كثيرة جدا، فيأكلون بعضها، ويبيعون البعض الآخر، ويشترون بثمنه حاجياتهم، وكانت هذه القرية قوية جدا، فأهلها متحدون وقوة تخشاها القرى المجاورة .

استمر هذا الوضع برهة من الزمن، تراكمت فيها الأموال عند أهل القرية، إلى أن أتى جيل ظهر فيه داعية من القرى المجاورة يدعو إلى تحويل مزرعة القرية إلى منجم للذهب، في البداية رفض أهل القرية هذه الدعوة رفضا قاطعا، ولكن مع مرور الزمن واستمرار هذا الداعية في دعوته بدأ بعض سكان القرية يستمعون لما يقدمه من مبررات، والتي مع التكرار تقبلوها، فبدأ بعضهم يحول حقوله إلى مناجم للتنقيب عن الذهب.

ونظرا لكون المناجم تفسد الأرض، فإن الحقول المجاورة لها لم تجد بدا من التحول إلى مناجم هي الأخرى، فهي لم تعد صالحة للزراعة، وهكذا إلى أن تحولت جنة القرية كلها إلى مناجم للتنقيب عن الذهب. 

وهكذا تحولت تلك الجنة الخضراء إلى أرض جرداء مليئة بحفر التنقيب عن الذهب المنشود، وتحولت وجوه القوم من وجوه مطمئنة، إلى وجوه خائفة حائرة، فهي قد خسرت جنتها ولم تحصل بعد على الذهب.

في السنوات الأولى كان سكان أهل القرية يعيشون على مدخراتهم من زمن الرخاء، وكان العائد من الذهب قليلا جدا بحيث أن النزاعات بدأت تشب بين سكان القرية حول حفر التنقيب، وما هي إلا فترة قصيرة وينفد المخزون، ويبدأ الجوع يفتك بسكان القرية. 

الأمر الذي أدى بدوره إلى نشوب حروب ضروس بين سكان القرية، وانقسموا إلى عدة مجموعات متناحرة فيما بينها.

استمر هذا الوضع أجيالا حتى صار هو الوضع المألوف بين سكان القرية، فهم تربوا على الجوع والعداوة بينهم، ولا يعرفون عن زمن رخاء القرية إلا ما يقرأون أحيانا عن تاريخ قريتهم.

لم تتأخر القرى المجاورة في غزو قريتهم واستعبادهم، وهكذا أصبحوا عبيدا للقرى المجاورة يتجرعون الذلة والمسكنة كل يوم.

في ظل هذا الوضع المزري قام بعض سكان القرية بالبحث عن الحلول، وانقسم الباحثون عن الحلول إلى عدة مذاهب أهمهم:

التراثيون : وهم طائفة قالت أنه لا مخرج لنا مما نحن فيه إلا بالسير على خطى آبائنا، وذلك بتجديد العمل في منجم الذهب، فهو الذي سوف يخرجنا مما نحن فيه، هذه الطائفة تلقى قبولا واسعا عند سكان أهل القرية، لأنها تعمل على تمجيد آبائهم، وتخليهم من مسؤولية ما وصلوا إليه.

الحداثيون : وهم على النقيض من التراثيين يرون أن السير على خطى الأجداد هو سبب ضعف أهل القرية، ويدعون إلى اتباع طريق القرى التي استعبدتهم، فهي قرى قوية ومتقدمة، وتصلح أن تكون مثلا يحتذى به، هذه الطائفة تلقى رواجا عند شباب أهل القرية الذين ينظرون بإعجاب وانبهار شديد إلى أسيادهم الذين يستعبدونهم، لذلك بدأوا فعلا في تقليدهم في لبسهم ولسانهم وطريقة عيشهم.

المزارعون: وهم تيار قليل جدا ينادي بالعودة إلى زراعة الأرض كما كان الأوائل يفعلون في زمن الرخاء، ويستشهدون بما هو متفق عليه عن تلك الحقبة السعيدة من تاريخ القرية، وترى هذه الطائفة أن سبب الدمار هو تحويل الجنة إلى منجم الذهب.

يلاقي المزارعون أشد أنواع العداوة من التراثيين لأنهم يرون فيهم أعداء للأجداد والآباء، وذلك لكونهم يعتبرون التنقيب عن الذهب هو سبب ضعف أهل القرية، كما يلاقي المزارعون أشد أنواع العداوة من الحداثيين نظرا لكون مشروعهم رجعي جدا، ويخالف ما يدعو إليه الحداثيون من تقليد الأسياد الجدد.

وهكذا يلقى المزارعون العداوة والإعراض من أغلب سكان القرية، ويبقى أهل القرية في دائرة مظلمة مغلقة بين من يدعو إلى تجديد التنقيب، وبين من يدعو إلى تقليد الأسياد، وتظل الذلة والمسكنة هي الوضع السائد على أهل القرية.

إن هذه القصة ليست من وحي الخيال وإنما مثل ضربه الله لنا في قوله: 

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ۝وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمونَ﴾ 

[النحل: ١١٢-١١٣]

وهي بالضبط قصة أمتنا التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، أليس كذلك ؟

لا ليس كذلك !! 

وإنما هي قصة أمتنا التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله.

نعم كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف جزاء لها على كفرها، فربك لا يظلم أحدا، ولا يعقل أن نكون بقينا مؤمنين، ثم فجأة يذيقنا الله لباس الجوع والخوف، حاشاه سبحانه فهو لا يظلم أحدا، ولا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما قال هو نفسه سبحانه: 

﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾ 

[الأنفال: ٥٣]

لذلك يجب أن نصارح أنفسنا بحقيقتنا المرة، حتى نغيرها، وإلا فعبثاً نحاول …

لأنه ما لم نعترف بالداء فلن نطلب الدواء …

فإذا كنت مستعدا للمصارحة والمكاشفة فحي هلا، وإلا فلا تضيع وقتك، فهذه السطور لن تنفعك، يمكنك البحث عن غيرها ممن يبيع لك ما يدغدغ مشاعرك، وإن كان لن يغير شيئا من واقع أمتك. 

في هذه السطور سوف أحاول الإجابة على السؤال ما أسباب تخلف الأمة الإسلامية وذلك عبر المحاور التالية

أنعم الله على الأمة

يخبرنا ربنا عز وجل عن أم نعمه على المؤمنين بقوله: 

﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ﴾ 

[آل عمران: ١٦٤]

نعم، إنها محمد صلى الله عليه وسلم والوحي الذي أرسل به، هذه هي أم النعم التي أنعم الله على المؤمنين، ونجم عنها نعم كثيرة مثل : 

﴿وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا وَاذكُروا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعداءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوانًا وَكُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنقَذَكُم مِنها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدونَ﴾ 

[آل عمران: ١٠٣]

ومثل نعمة التمكين والنصر: 

﴿وَاذكُروا إِذ أَنتُم قَليلٌ مُستَضعَفونَ فِي الأَرضِ تَخافونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾ 

[الأنفال: ٢٦]

والتي تمت يوم كمل الدين، كما جاء في قوله سبحانه: 

﴿ اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا فَمَنِ اضطُرَّ في مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجانِفٍ لِإِثمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ 

[المائدة: ٣]

نور القرآن والسنة

فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بالنور كالمصباح وسط الظلام الدامس، فكان أغلب الناس عميان، لم يستطيعوا أن يروا النور ولا أن يتخيلوه، بينما أبصرت فئة قليلة ذلك النور، فاتبعته، وتحملت كل صروف العذاب في سبيل اتباعه، بتوفيق من الله جل جلاله.

استمر هذا الحال ثلاثة عشر سنة في مكة، الغالبية الساحقة كافرة لا تقبل أن ترى النور، وقلة قليلة لا تقبل أن تعود للظلمات بعد أن أخرجهم الله منها برسوله صلى الله عليه وسلم:

﴿هُوَ الَّذي يُنَزِّلُ عَلى عَبدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخرِجَكُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُم لَرَءوفٌ رَحيمٌ﴾ 

[الحديد: ٩]

ثم أذن الله في الهجرة إلى المدينة، حيث بدأ المؤمنون حقبة من الابتلاءات لا تقل في شدتها عن سابقتها، فقد كانت المدينة أرضا ملغومة بما في الكلمة من معنى، لأنها مأهولة باليهود والمشركين والمنافقين، وكل هؤلاء يتربصون بالمؤمنين، وزيادة على ذلك كان المؤمنون على موعد مع وعد الله عز وجل: 

﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ۝الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ۝أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾ 

[البقرة: ١٥٥-١٥٧]

وقد كانت البشارة، فقد صبر المؤمنون على الجوع الشديد، والخوف الشديد كذلك ،والقتل في المعارك المتواصلة، صبرا منقطع النظير فيما نعلم من تاريخ البشرية، فاستحقوا بذلك البشارة الواردة في الآيات، كما استحقوا بذلك أن يتحقق لهم وعد آخر وعد الله به المؤمنين وهو: 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ 

[النور: ٥٥]

فقد تحولوا من لا شيء حرفياً، إلى أعظم قوة في عصرها في خلال تسع سنوات فقط، حيث فر قيصر الروم أمام المسلمين في غزوة تبوك معلنا بذلك انسحاب أمة الروم من قيادة العالم أمام المسلمين 

إن انتصار المسلمين في تلك الفترة الوجيزة لهو آية عظيمة من آيات الله جل جلاله شاهدة بصدق القرآن، فهو بالمقاييس الدنيوية أمر مستحيل لا يمكن تصوره حتى، فتسع سنوات لا تمثل شيئا في حياة الأمم كما هو معلوم. 

إذن نعمة الله التي بها يتم النصر والتمكين هي نعمة الإيمان الصحيح المرضي عند الله وهو اتباع وحي الله عز وجل الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

متى بدأ تخلف الأمة الإسلامية

هذا السؤال في غاية الأهمية لأنه مفتاح التشخيص السليم لمرض الأمة، ولكي نجيب عليه بطريقة علمية محايدة نحتاج تحديد علامة نستطيع الحكم بوجودها على تخلف الأمة. 

إن قوله تعالى: 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾

[النور: ٥٥]

وقوله سبحانه: 

﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾ 

[الأنفال: ٥٣] 

يعطينا العلامة المنشودة، وهي زوال النصر والتمكين عن الأمة، لأنه متى زالت نعمة النصر والتمكين حلت الذلة والمسكنة وبدأ التخلف، لذلك كل ما نحتاجه هو مراجعة تاريخ الأمة لنعرف متى توقف النصر والتمكين عن الأمة فتلك هي بداية الانحطاط، وهذا ما سوف نقوم به فيما يلي إن شاء الله.

ينبغي التنبيه على مسألة في غاية الأهمية وهي أن أهل الأرض كلهم باستثناء الأمة الإسلامية كانوا كفارا، أي أن نصر بعضهم على بعض متعلق بأسباب دنيوية بحتة، وهذا يعني أنه عند تخلي الأمة الإسلامية عن الإيمان، فإنها سوف تصبح كبقية الأمم نصرها مرتبط بأخذها بالأسباب الدنيوية، هذه المسألة مهمة جدا لكي نفرق بين النصر الناتج عن الإيمان، والنصر الناتج عن الأخذ بالأسباب الدنيوية، ونحن نقرأ التاريخ.

الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم

إن قارئ تاريخ الأمة الإسلامية يدرك بوضوح أن حال الأمة من حيث القوة والتمكين قبل الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم التي ظهرت بدايتها في مقتل عثمان رضي الله عنه، قد تغير تغييرا جذريا فلم تعد الأمة بتلك القوة التي كانت عليها قبل الفتنة.

فالغزو في سبيل الله بعد الفتنة الذي استأنف سنة ٤١ للهجرة لم يكن على نفس الحال في عهد عثمان رضي الله عنه، فقد كانت الفتوحات بعد الفتنة تعتمد على العدة المادية، بخلاف الفتوحات قبلها التي كانت بسبب الإيمان وحده حيث لم تكن للمسلمين عدة مادية معتبرة.

ولذلك يمكننا اعتبار الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم مؤشرا على بداية تغير ما بأنفسنا مما أدى إلى تغيير وعد الله عز وجل من النصر والتمكين إلى وقوع الوعيد:

﴿قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُم يَفقَهونَ﴾ 

[الأنعام: ٦٥]

فقد تقاتل المسلمون فيما بينهم قتالا ذهب ضحيته مئات الآلاف منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولكي ندرك الكوامن الباعثة على الفتنة فإنه لابد لنا من الرجوع إلى الوراء قليلا وتحديدا إلى بداية خلافة الصديق رضي الله عنه، فأقول:

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت جزيرة العرب باستثناء مكة والمدينة، مما جعل الصديق يبدأ بحروب الردة والتي انتهت بإخضاع جزيرة العرب للمسلمين.

بعد أن خضعت جزيرة العرب أرسل أبو بكر الصديق الجيوش للعراق والشام والتي نجحت في عهد خليفته عمر في فتح كامل العراق والشام وبلاد فارس وأراضي أخرى كثيرة، وكانت تلك الفتوحات آيات من آيات الله حيث أنها كانت التجسيد الفعلي لوعد الله بالنصر والتمكين.

لقد كانت شعوب المناطق التي فتحت سواء في جزيرة العرب أو غيرها تنقسم إلى ثلاثة أقسام في اعتقادي وهي: 

السواد الأعظم من تلك الشعوب دخل في الإسلام صدقا، فكان منهم المقاتلون الذين يقاتلون في سبيل الله في جيوش المسلمين في جميع أنحاء الأرض 

بعض العرب الذين قبلوا الإسلام فعلا ولكن مع جهل به وأنفة عن تعلمه من غيره مما جعلهم يخرجون بفتاوي بعيدة جدا عن الحق قد استنبطوها بجهل منهم، وهم النواة التي شكلت الخوارج فيما بعد. 

طائفة كافرة تظهر الإسلام وتكيد له بكل الوسائل وهي التي نجحت في إشعال الفتنة في الكوفة أولا ثم تبعتها بقية الأمصار، فمنذ تأسيس الكوفة وهي بؤرة الفتن بكل أشكالها، فقد بدأت بشكوى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، وكل من تولى عليها بعده.

وانطلقت منها الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه فقد كانت فتنة خبيثة إعلامية تقوم على تصوير عثمان رضي الله عنه وكأنه شيخ أحمق حيث الصقوا به لقب "نثعل" وللأسف كان لهم ما أرادوا 

انطلقت منها أيضا فتنة الرأي وتحريف الدين بكل الطرق ، سواء بادخال معتقدات فاسدة من الديانات الأخرى كالحلول ، أو بوضع أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بخلق دين مواز وهو التشيع، فكل تلك الفتن مرجعها كلها العراق عموما والكوفة تحديدا ، والهدف منها تحريف الإسلام عن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاية في المسلمين الذين أزالوا ملك فارس.

وهكذا يمكننا أن نقول أن بداية تخلف الأمة الإسلامية عن الدور المناط بها كان مع مقتل عثمان رضي الله عنه، فمنذ ذلك اليوم وإلى الآن، لم ترجع الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه قبله.

أسباب تخلف الأمة الإسلامية بحسب الوحي

إن القرآن الكريم صريح في ربط النصر والتمكين بالإيمان فربنا عز وجل لم يشترط غير الإيمان ليتم النصر والتمكين في قوله:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾

لذلك متى زال النصر والتمكين فإنه علينا أن ندرك أن المشكلة مشكلة إيمان، فالله لا يخلف الميعاد، وقد مر معنا سابقا قوله تعالى: 

﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ﴾ 

[الأنفال: ٥٣]

هذا يعني أن تخلف الأمة الإسلامية ليس مرتبطا بأي سبب مادي ارتباطا مباشرا، وإنما مرتبط بالإيمان فمتى تغير الإيمان زالت نعمة الاستخلاف، ووقع التخلف.

قد يقول قائل كيف تكون مشكلة الأمة هي الإيمان وفيها الكثير من الطوائف الصادقة في إيمانها تقدم في سبيله التضحيات العظام؟

والجواب على هذا السؤال كون مشكلة الأمة مع الإيمان لا تكمن في تمسكها بما تدين به، وإنما في تحريف مفهوم الإيمان نفسه من المعنى الذي كان عليه يوم نزول الوحي، إلى مفاهيم ظهرت بعد الفتنة التي حدثت بين الصحابة، فقد كان هناك من أهل العراق من يحاول أن يغير مفاهيم الدين، وقد نجح في ذلك حيث أصبحت الفتوى بالرأي أمرا مستساغا عند أغلب الناس، الأمر الخطير لارتباطه بمفهوم التشريع في الإسلام ومن يحق له، والذي بدوره مهد لظهور المذاهب الفقهية وما تعتمده من اجتهاد في تشريع الأحكام.

لذلك مشكلتنا ليست عدم التمسك بما تعتقد أنه الإسلام، وإنما تكمن في تحريف معنى الإسلام نفسه

قد يقول آخر، إذا كان الأمر كما تقول فإنه يخالف الحديث الصحيح القائل: 

(لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بأمر الله، لا يضرهم  من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)

والجواب أن هذه الأمة المذكورة موجودة فعلا، فلا يخلو زمان من مسلمين، ولكنهم أفراد قلائل مفرقون في العالم، وليسوا كيان مستقل، ولا أحد يتبعهم، لأن العامة مع ما ورثت عن آبائها، ولذلك لا أحد يعلم بهم.

أيها القارئ إذا أمعنت النظر في آية النور السابقة، فإنه لا مناص لك من المعادلة : 

الإيمان = النصر والتمكين

لأن الله لا يخلف الميعاد، ولذلك إذا فقدنا أحد طرفي المعادلة فإن الطرف الآخر سوف يُفقد مباشرة، لذلك لو كانت الأمة على الإسلام الصحيح لما كانت تتجرع الذلة والمسكنة منذ عصور وإلى اليوم، لا تكاد تخرج من نكبة حتى تدخل أخرى .

مظاهر تخلف الأمة الإسلامية

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أسباب تخلف الأمة بحسب تيارات التغيير المعاصرة 

عندما يكون المرض قديم جدا قد توارثته الأجيال، فإن أغلب المرضى سوف يعتير الأعراض هي المرض، وينسى المرض الأم، وهذا بالضبط ما حدث مع أمتنا، فأغلب المهتمين بالإصلاح هم أنفسهم مرضى بمرض الأمة، وهو تحريف الإسلام عن معناه، وبالتالي فإنهم عند طرح مقترحاتهم ينطلقون من أعراض باعتبارها هي السبب، ويتغافلون عن السبب الحقيقي، إما لجهلهم به، أو لكونهم يعلمون أن الحديث عنه سوف يكلفهم باهظا جدا نظرا لمخلافته للموروث، وفيما يلي أهم تصورات طوائف الأمة لأسباب تخلف الأمة.

نظرية الإخوان المسلمين:

يمكن تلخيص نظرية الإخوان المسلمين في اعتبار الأنظمة الحاكمة هي السبب فيما نعانيه، لذلك فإن التغيير يجب أن يكون في هرم السلطة، فإذا وصلوا إلى السلطة كان الحكم بالنظام الديمقراطي بما يخدم مصالح الأمة ويراعي مقاصد الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم.

وهذه النظرة جد قاصرة حيث أنها تنظر إلى الواقع اليوم بشكل منفصل عن الماضي، والسؤال الذي لا يمكنهم إجابته : 

ما الذي يمنع من ظهور مثل هذه الأنظمة التي تشتكون منها مستقبلا، فالشعوب التي انتجتها لا تزال هي هي ؟

نظريات السلفية

التيار السلفي هو أكثر فيه اختلاف يصل لحد التناقض، ففيه التيار الجهادي، وفيه على النقيض التيار المدخلي، وفيه التيار العلمي على اختلاف في داخله .

بالنسبة للمداخلة ومن جرى مجراهم مما يسمى السلفية العلمية، فهم لا يرون أن هناك مشكلة أصلا، ولا حاجة لتقديم أي حل، المهم هو عدم الخروج على الحاكم لأن ذلك هو نهج السلف بزعمهم . 

أما التيار الجهادي فهو يرى أن المشكلة تكمن في تعطيل الجهاد، وأنه لا فلاح للأمة ما لم ترجع إلى الجهاد كما كانت .

مشكلة هذا التيار كونه لا يفقه الواقع ولا يفقه حال الأمة، وهذا يظهر عند سؤالهم ما الذي أوصل الأمة إلى ترك الجهاد أصلا؟

حيث لا نلقى جوابا واضحا غالبا.

يزعم تيار واسع من السلفيين أن أسباب تخلف الأمة هو غياب الخلافة، وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية بحسب مفهومهم للشريعة؟

ويرد على هؤلاء بكون الخلافة كانت قائمة، وما تسمونه الشريعة كان مطبقا، ومع ذلك ظلت الأمة تتجرع الذلة والمسكنة منذ الغزو الصليبي الأول مرورا بالتتار وإلى سقوط الخلافة العثمانية.

وكما أسلفت مشكلة هؤلاء أنهم ينظرون للواقع مبتورا من الماضي، فيعلقون أسباب تخلف الأمة على أمور هي نتائج تخلف الأمة، فحين تخلفت نزعت منها الخلافة، وليس العكس أي حين نزعت الخلافة تخلفت الأمة.

كيفية النهوض بالأمة من جديد 

إن النهوض بالأمة يكمن في أمر واحد لا غير، وهو جعلها تعتنق الإسلام الصحيح الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقه هو وصحابته رضوان الله عليهم.

بالطبع هذا الأمر ليس بالسهل، ولكن ليس أمام المسلم خيار فهو عليه أن يتبع سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أخبر عنه بأمر ربه: 

﴿قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾

 [يوسف: ١٠٨]

ولأجل هذا أنشأنا هذا الموقع وغيره منتهجين في ذلك بيان الإسلام من نصوصه التي نزل بها قرآنا وسنة، وتعرية ما هو متداول بين الناس من تصورات عن الإسلام وذلك بعرضها على القرآن والسنة بشكل متجرد، والله ولي التوفيق.

قراءة وتحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-