ما هو التشريع ومن يحق له في الإسلام

نَهْدِفُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْبَحْثِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا هُوَ التَّشْرِيعُ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ، حَتَّى نَفْهَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى:

﴿أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ 

[الشورى: ٢١]

فَنَتَجَنَّبُ الْوُقُوعَ فِي الشِّرْكِ، ذَلِكَ الذَّنْبُ الَّذِي قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مُخْبِرًا عَنْ خُطُورَتِهِ:

﴿لَقَد كَفَرَ الَّذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسيحُ ابنُ مَريَمَ وَقالَ المَسيحُ يا بَني إِسرائيلَ اعبُدُوا اللَّهَ رَبّي وَرَبَّكُم إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمينَ مِن أَنصارٍ﴾ 

[المائدة: ٧٢]

لِذَلِكَ أَعِرْنِي كَامِلَ تَرْكِيزِكَ، فَالْمَوْضُوعُ غَايَةٌ فِي الْخُطُورَةِ، فَهُوَ مَوْضُوعُ إِيمَانٍ وَشِرْكٍ، جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ.

لِكَيْ نُحَقِّقَ الْهَدَفَ الْمَذْكُورَ أَعْلَاهُ، قَسَّمْتُ الْبَحْثَ إِلَى الْمَحَاوِرِ التَّالِيَةِ:

مَا هُوَ التَّشْرِيعُ

التَّشْرِيعُ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ شَرَعَ، وَهُوَ يَأْتِي لِمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ جَمَعَهَا ابْنُ فَارِسٍ فِي قَوْلِهِ:

(شَرَعَ) الشِّينُ وَالرَّاءُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ شَيْءٌ يُفْتَحُ فِي امْتِدَادٍ يَكُونُ فِيهِ. مِنْ ذَلِكَ الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ مَوْرِدُ الشَّارِبَةِ الْمَاءَ. وَاشْتُقَّ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْعَةُ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 18]

[ابن فارس، مقاييس اللغة، ٢٦٢/٣]

وَذَكَرَ بَعْضَهَا الْفَيْرُوزَآبَادِي فِي قَوْلِهِ:

وشَرَعَ لهم، كمنَعَ: سَنَّ، وـ المنْزِلُ: صارَ على طَريقٍ نافِذٍ، وهي دارٌ شارِعَةٌ، ومَنْزِلٌ شارِعٌ، وـ الدَّوابُّ في الماءِ شَرْعاً وشُروعاً: دَخَلَتْ، وهي إِبلٌ شُروعٌ، بالضم، وشُرَّعٌ، كركَّعٍ، وـ في الأَمْرِ: خاضَ، وـ الْحَبْلَ: أنْشَطَه وأدخَلَ قُطْرَيْهِ في العُرْوَةِ، وـ الإِهابَ: سَلَخَهُ، وـ الشيءَ: رَفَعه جدّاً، وـ الرِّماحُ: تَسَدّدَتْ، فهي شارِعَةٌ وشَوارِعُ، وشَرَعْناها وأشْرعْناها فهي مَشْروعَةٌ ومُشْرَعَةٌ.

[الفيروزآبادي، القاموس المحيط، صفحة ٧٣٢]

وَحَاصِلُ مَا سَبَقَ أَنَّ التَّشْرِيعَ لُغَةً هُوَ خَلْقُ شِرْعَةٍ يَشْرَعُهَا النَّاسُ، وَاصْطِلَاحًا هُوَ سَنُّ الْقَوَانِينَ الْمُلْزِمَةَ لِلنَّاسِ، الَّتِي تَرِدُهَا النَّاسُ لِتَعْرِفَ كَيْفَ تُنَظِّمُ عَلَاقَتَهَا بِرَبِّهَا، وَبِبَعْضِهَا الْبَعْضِ.

أَيْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ اصْطِلَاحًا هِيَ مَجْمُوعَةُ الْقَوَانِينِ الَّتِي حَوَتْ الْوَاجِبَ، وَالْمَنْدُوبَ، وَالْحَلَالَ، وَالْمَكْرُوهَ، وَالْحَرَامَ، وَالْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَدَمِ احْتِرَامِ بَعْضِهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَهِيَ ذَاتُ طَابَعٍ عامٍ، وَإِلْزَامِيٍّ.

أَمَّا قَانُونًا فَيُعْرَفُ التَّشْرِيعُ بِكَوْنِهِ:

مَجْمُوعَةُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الْمُجَرَّدَةِ الْمُلْزِمَةِ الصَّادِرَةُ عَنِ السُّلْطَةِ الْعَامَّةِ الْمُخْتَصَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الَّتِي تُبِيحُ أَوْ تَحْظَرُ أَوْ تُنَظِّمُ حَقًّا أَوْ مَجْمُوعَةَ حُقُوقٍ. بِعِبَارَةٍ أُخْرَى هُوَ كُلُّ قَاعِدَةٍ قَانُونِيَّةٍ تَصْدُرُ عَنِ السُّلْطَةِ الْمُخْتَصَّةِ فِي وَثِيقَةٍ مَكْتُوبَةٍ.

الْمَصْدَرُ: ويكيبديا

أَقْسَامُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ

لَقَدْ عَلِمْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ قَرَارٌ بِبَيْعِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، هَذَا يَعْنِي عَمَلِيًّا أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الَّتِي يَلْتَزِمُ بِهَا الْمُسْلِمُ تُغَطِّي جَمِيعَ مَنَاحِي حَيَاةِ الْفَرْدِ، وَالدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، بِمَا فِي ذَلِكَ الْحَيَاةُ السِّيَاسِيَّةُ، وَالِاقْتِصَادِيَّةُ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْقَضَائِيَّةُ، وَالشَّعَائِرِيَّةِ، وَعَلَيْهِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْأَقْسَامِ التَّالِيَةِ:

أَحْكَامٌ تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِرَبِّهِ، تَنْدَرِجُ فِيهَا أَحْكَامُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ التَّعَبُّدِيَّةِ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَحَجٍّ، كَمَا تَنْدَرِجُ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ عَلَى الْفَرْدِ.

أَحْكَامٌ تُنَظِّمُ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِالْمُجْتَمَعِ وَالدَّوْلَةِ، وَتَنْدَرِجُ فِيهَا الْأَحْكَامُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوَارِيثِ، وَأَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ عُمُومًا.

أَحْكَامٌ تُنَظِّمُ عَمَلَ الدَّوْلَةِ، وَتَنْدَرِجُ فِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالدَّوْلَةِ، كَالْقِيَامِ بِالْجِهَادِ، وَالْقَضَاءِ، وَتَطْبِيقِ الْحُدُودِ، وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَتَعْيِينِ الْإِمَامِ، وَغَيْرِهَا.

أَحْكَامٌ قَضَائِيَّةٌ، وَتُبَينُ مِسْطَرَةَ التَّقَاضِي، وَحُقُوقَ الْخُصُومِ، وَحُدُودَ سُلْطَةِ الْقَاضِي، كَمَا تُحَدِّدُ الْعُقُوبَاتِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَطْبِيقِهَا.

لِذَلِكَ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ شَرِيعَةٌ كَامِلَةٌ، فَصَّلَتْ لِلْمُسْلِمِ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُهُ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ يَجِدُ تَفْصِيلًا لِحُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل: ٨٩]

فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا وَبَيْنَهُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ.

مَنْ يَحِقُّ لَهُ التَّشْرِيعُ وَمَصَادِرُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ

ما هو التشريع ومن يحق له في الإسلام

مِنَ الْمَعْلُومِ بَدَاهَةً أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الْمُشَرِّعُ، الَّذِي لَهُ حَقُّ التَّشْرِيعِ، فَنَحْنُ مِلْكُهُ وَحْدَهُ، وَنَعِيشُ بِرِزْقِهِ، وَعَلَى أَرْضِهِ، وَتَحْتَ سَمَائِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَهُ كَامِلُ الْحَقِّ أَنْ يَأْمُرَنَا فَنَأْتَمِرَ، وَيَنْهَانَا فَنَنْتَهِي، أَيْ نَتَّخِذَ أَوَامِرَهُ شَرِيعَةً لَنَا نَلْتَزِمُ بِهَا فِي حَيَاتِنَا كُلِّهَا.

إِنَّ الْمُشَرِّعَ الَّذِي نَلْتَزِمُ بِشَرِيعَتِهِ مَعْبُودٌ لَنَا، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ، فَإِذَا خَضَعْنَا لِشَرِيعَةِ مُشَرِّعٍ مَا، نَكُونُ عَبَدْنَاهُ، وَلِذَلِكَ عَابَ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ شَيْئًا فِي قَوْلِهِ:

﴿وَاتَّخَذوا مِن دونِهِ آلِهَةً لا يَخلُقونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقونَ وَلا يَملِكونَ لِأَنفُسِهِم ضَرًّا وَلا نَفعًا وَلا يَملِكونَ مَوتًا وَلا حَياةً وَلا نُشورًا﴾ 

[الفرقان: ٣]

فَبِأَيِّ حَقٍّ يَخْضَعُونَ لِتَشْرِيعَاتِهِمْ؟

كَذَلِكَ أَخْبَرَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى:

﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ﴾ 

[التوبة: ٣١]

أَنَّهُمْ عَبَدُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ تَشْرِيعَاتِهِمُ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي فَتَاوِيهِمْ بِرَأْيِهِمْ.

وَنَفْسُ مَا حَدَثَ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَدَثَ مَعَ أُمَّتِنَا، حِينَ اتَّخَذَتْ رُؤُوسًا جُهَّالًا يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

[البخاري، صحيح البخاري، ٣١/١]

وَسَبَبُ ضَلَالِ مُتَّبِعِيهِمْ أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِفَتَاوِيهِمْ يَكُونُونَ قَدِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، تَمَامًا كَمَا اتَّخَذَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.

لِذَلِكَ فَاتِّخَاذُ مُشَرَّعٍ مَعَ اللَّهِ هُوَ الشِّرْكُ الصَّرِيحُ، لِأَنَّهُ يَعْنِي اتِّخَاذَ مَعْبُودٍ مَعَ اللَّهِ.

إِذَا كُنْتَ تَتَّفِقُ مَعِي عَلَى مَا سَبَقَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَأَخِيرًا، وَإِذَا كَانَ عِنْدَكَ اعْتِرَاضٌ فَاكْتُبْهُ لِي فِي تَعْلِيقٍ، لِنُنَاقِشَهُ أَوَّلًا، قَبْلَ مُوَاصَلَةِ الْقِرَاءَةِ.

إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى مَا سَبَقَ فَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَيْضًا حَصْرُ مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْنَا غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَأْتِنَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ ؟

مِنَ الْوَارِدِ أَنَّكَ تَتَسَاءَلُ مَاذَا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَصَادِرِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَحْدِيدًا الِإجِّمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالاجْتِهَادِ؟

وَالْجَوَابُ الْمُخْتَصَرُ قَبْلَ الْجَوَابِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي سَوْفَ نُقَدِّمُهُ فِي الْبُحُوثِ الْقَادِمَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، أَنَّ هَذِهِ الْمَصَادِرَ تَسْتَنِدُ فِي مَنْشَأِهَا عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ هُوَ كَوْنُ نُصُوصِ الْوَحْيِ لَمْ تَسْتَوْعِبْ كُلَّ الْأَحْكَامِ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا، عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَنُصُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ:

وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ

لِذَلِكَ فَلَابُدَّ مِنْ مَصَادِرَ لِسَدِّ هَذَا النَّقْصِ الْمَزْعُومِ، فَمِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ عَدَمُ وُجُودِ نَصٍّ فِي الْمَسْأَلَةِ، كَذَلِكَ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ، عَدَمُ وُجُودِ النَّصٍّ، فَالْقَاعِدَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ لَا اجْتِهَادَ فِي وُجُودِ النَّصِّ.

الثَّانِي هُوَ أَنَّ التَّشْرِيعَ لَيْسَ حَقٌّ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَحِقُّ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَهَذَا الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ اعْتَمَدَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ

أَوَّلُهُمَا حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ أَنَّ طُرُقَهُ تَدُورُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْسَةَ السُّلَمِيِّ، وَحُجْرٍ بْنِ حُجْرٍ الْكَلَاعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بِلَالٍ، وَيَحْيَى ابْنُ أَبِي الْمُطَاعِ، وَكُلُّهُمْ مَجَاهِيلُ الْحالِ.

وَثَانِيهِمَا عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ التَّشْرِيعِ الَّذِي هُوَ سَنُّ الْقَوَانِينِ، وَبَيْنَ تَطْبِيقِ الْأَفْرَادِ لِتِلْكَ الْقَوَانِينِ بِحَسْبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، هَذَا الْخَلْطُ نَجَمَ عَنْهُ اعْتِقَادُ أَنَّ لِلْمَرْءِ الْحَقَّ فِي التَّشْرِيعِ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمِحْوَرِ التَّالِي

الْفَرْقُ بَيْنَ التَّشْرِيعِ وَبَيْنَ تَطْبِيقِهِ

سَبَقَ وَذَكَرْتُ أَنَّ التَّشْرِيعَ هُوَ سَنُّ الْقَوَانِينِ الْمُلْزِمَةِ لِلْأُمَةِ كُلِّهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ حَقٌّ إِلَهِيٌّ بَحْتٌ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَطْبِيقُهُ.

هَذَا التَّطْبِيقُ سَوْفَ يَخْتَلِفُ مِنْ فَرْدٍ إِلَى آخَرَ، بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَطْبِيقِهِ، حَيْثُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

عَن أَبي هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»

[مسلم، صحيح مسلم، ١٨٣٠/٤]

وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ:

تَطْبِيقُ التَّشْرِيعِ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ

إِنَّ الْفَرْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُحَقِّقَ الْإِسْلَامَ فِعْلًا، لِذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَمَا أُتِيحَ لَهُ مِنْ وَسَائِلَ، حَتَّى يَعْرِفَ أَوَامِرَ اللَّهِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا لِيُطِيعَهَا، وَنَوَاهِيَهُ لِيَجْتَنِبَهَا.

قُدْرَةُ الْمَرْءِ عَلَى التَّعَلُّمِ تَخْتَلِفُ مِنْ فَرْدٍ إِلَى آخَرَ، وَلِكَيْ يَسْهُلَ تَطْبِيقُ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِلْمُسْلِمِ اسْتِفْتَاءَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمَّا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:

﴿وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾ 

[التوبة: ١٢٢]

وَهُنَا نُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُسْتَفْتِي، وَالْمُفْتِي، فَنَقُولُ

إِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إِمَّا أَنْ يَجِدَ مَنْ يُفْتِيهِ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَعْمَلُ بِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يَجِدُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُطَبِّقُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فِي النَّازِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، عَمَلًا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَكَمَا أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ عَمَّارٍ، وَعُمَرَ فِي الْحَدِيثِ:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ المَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ

[البخاري، صحيح البخاري، ٧٥/١]

فَعَمَّارٌ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ التَّيَمُّمَ، فَقَرَّرَ أَنْ يَتَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ، وَيُصَلِّيَ.

أَمَّا عُمَرُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، اعْتَبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ سَقَطَتْ عَنْهُ، فَلَمْ يُصَلِّ.

وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْهُمَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِقَضَاءِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا عَلَّمَهُمَا التَّيَمُّمَ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا أَدَّيَا مَا عَلَيْهِمَا، كُلٌّ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فَكِلَاهُمَا كَانَ يَجْهَلُ حُكْمَ التَّيَمُّمِ، لِذَلِكَ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُسْتَفْتِي حُكْمَ اللَّهِ، وَكَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، فَهَذَا مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ

أَمَّا الْمُفْتِي فَإِنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، الْأُولَى أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، وَسَاعَتَهَا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ بِهِ، وَلَا يَكْتُمَهُ أَبَدًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿إِنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللّاعِنونَ۝إِلَّا الَّذينَ تابوا وَأَصلَحوا وَبَيَّنوا فَأُولئِكَ أَتوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾ 

[البقرة: ١٥٩-١٦٠]

أَوْ يَكُونُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ سَاعَتَهَا أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِرَأْيِهِ، أَوْ رَأْيِ غَيْرِهِ، أَوْ ظَنِّهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَمَنْ أَفْتَى بِهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْحَدِيثِ:

فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا

وَقَدِ اقْتَرَفَ أَعْظَمَ جُرْمٍ حَيْثُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَرَبُّنَا يَقُولُ: 

﴿قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾ 

[الأعراف: ٣٣]

ويقول :

﴿قُل أَرَأَيتُم ما أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِن رِزقٍ فَجَعَلتُم مِنهُ حَرامًا وَحَلالًا قُل آللَّهُ أَذِنَ لَكُم أَم عَلَى اللَّهِ تَفتَرونَ﴾ 

[يونس: ٥٩]

ويقول:

﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ۝مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ 

[النحل: ١١٦-١١٧]

لِذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ حِينَ لَا يَدْرِي أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، وَيَدَعَ السَّائِلَ يَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ عَلَّمَ غَيْرَهُ مَا جَهِلَ هُوَ، وَلَعَلَّهُ يُفْتَضَحُ أَمْرُهُ إِنْ هُوَ افْتَى بِرَأْيِهِ، ثُمَّ عُلِمَ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِفَتْوَاهُ.

تَطْبِيقُ التَّشْرِيعِ عَلَى الْقَضَاءِ

إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهلِها وَإِذا حَكَمتُم بَينَ النّاسِ أَن تَحكُموا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَميعًا بَصيرًا﴾ 

[النساء: ٥٨]

وقوله: 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ 

[النحل: ٩٠]

لِذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَبْذُلَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ أَطْرَافِ النِّزَاعِ، وَقَدْ يَنْجَحُ فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَقَدْ يُخْفِقُ فِيهِ، بِحَسَبِ مَا يَعْرِضُ كُلُّ طَرَفٍ مِنْ أَدِلَّةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ الْخَطَأِ حِينَ يَكُونُ قَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: 

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»

[البخاري، صحيح البخاري، ٦٩/٩]

وَالْقَاضِي فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ مَأْجُورٌ، لِأَنَّهُ عَامِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :

وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ

بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَاَللَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهُ غَيْرَ طَاقَتِهِ.

إِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُتَخَاصِمِينِ دُونَ حَلٍّ لِنِزَاعِهِمْ، لِذَلِكَ لَا يَسَعُهُ قَوْلٌ لَا أَدْرِي، بِخِلَافِ الْمُفْتِي، لِذَلِكَ اعْتِبَارُ أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا جَهِلَ الْجَوَابَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فَيُفْتِي بِغَالِبِ ظَنِّهِ - كَمَا هُوَ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ أَهْلِ الرَّأْيِ - قِيَاسًا عَلَى الْقَاضِي الَّذِي يَحْكُمُ بِظَنِّهِ أَنَّهُ حَقَّقَ الْعَدْلَ وَلَا يَقْطَعُ بِذَلِكَ، هُوَ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ الْفَتْوَى بِقَوْلِ لَا أَدْرِي، أَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَسَعُهُ قَوْلُ لَا أَدْرِي، وَهُوَ مُلْزَمٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينِ.

تَطْبِيقُ التَّشْرِيعِ عَلَى مُسْتَوَى حُكْمِ الدَّوْلَةِ

إِنَّ مُهِمَّةَ الْحَاكِمِ هِيَ إِقَامَةُ الدِّينِ وَنَشْرِهِ فِي الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿الَّذينَ إِن مَكَّنّاهُم فِي الأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَروا بِالمَعروفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمورِ﴾ 

[الحج: ٤١]

كَمَا أَنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»

[البخاري، صحيح البخاري، ٥/٢]

وَمِنْ ثَمَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ قَرَارَاتِهِ قَدْ تَكُونُ مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ تَمَامًا كَمَا يَعْتَقِدُ هُوَ، وَقَدْ تَكُونُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي كِلَا الْحَالَتَيْنِ مَأْجُورٌ، مَا دَامَ يَبْذُلُ وُسْعَهُ فِي تَحْقِيقِ مَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»

[البخاري، صحيح البخاري، ١٠٨/٩]

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي تَحْقِيقِ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ، وَبَيْنَ فَتْوَى الشَّخْصِ بِاجْتِهَادِهِ، حَيْثُ أَنَّ الْأَوَّلَ عَامِلٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَالثَّانِي مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.

مَصَادِرُ التَّشْرِيعِ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ

لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ لَا يُعْتَبَرُ التَّشْرِيعُ عِنْدَ الْأُمَّةِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ حَقٌّ إِلَهِيٌّ بَحْتٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضِمْنَ اخْتِصَاصِ الْفُقَهَاءِ، يَشَرِّعُونَ بِاجْتِهَادَاتِهِمْ، حَيْثُ قَالَ بَعْضُهُمْ :

فَإِنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصِ لَا تَفِي بِالْعُشْرِ مِنْ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ

[الجويني، أبو المعالي، البرهان في أصول الفقه، ٣٧/٢]

لِذَلِكَ فَإِنَّ مَصَادِرَ التَّشْرِيعِ عِنْدَهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَغْلَبُهَا اجْتِهَادِيٌّ، كَمَا صَرَّحَ الْجُوَيْنِيُّ، إِنْ لَمْ نَقُلْ كُلَّهَا، فَلَوْ أَنَّهَا اعْتَمَدَتْ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ لِلتَّشْرِيعِ، لَمَا جَازَ لَهَا إِضَافَةُ مَصْدَرٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُحَرِّمُ الْقَوْلُ عَلَى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ:

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

وَيَصِفُ الْكَافِرِينَ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ:

﴿إِن هِيَ إِلّا أَسماءٌ سَمَّيتُموها أَنتُم وَآباؤُكُم ما أَنزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلطانٍ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهوَى الأَنفُسُ وَلَقَد جاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الهُدى﴾ 

[النجم: ٢٣]

وَالِاجْتِهَادُ ظَنٌّ بِاعْتِرَافِ أَهْلِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: 

«إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»

[البخاري، صحيح البخاري، ٤/٤]

كَمَا أَنَّهُ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى كُلِّ مُفْتٍ بِرَأيهِ بِقَوْلِهِ:

مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ

[البخاري، صحيح البخاري، ٦٩/٣]

وَلَكِنْ لِلْأَسَفِ سَارَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَا سَارَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلُ، فَأَعْطَوْا لِأَنْفُسِهِمْ الْحَقَّ فِي التَّشْرِيعِ مَعَ اللَّهِ، وَادَّعَوْا بِأَنَّهُمْ مَأْجُورُونَ فِي تَشْرِيعِهِمْ بِظُنُونِهِمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ.

فِي الْبَحْثِ الْقَادِمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سَوْفَ أَتَنَاوَلُ الِاجْتِهَادَ الَّذِي هُوَ الْبَابُ الَّذِي فَتَحُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الدِّينِ، لِيَتَحَوَّلَ مَعَ الزَّمَنِ مِنْ وَحْيٍ خَالِصٍ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ، لَيْسَ فِيهِ رَأْيٌ لِبَشَرٍ، إِلَى اجْتِهَادَاتٍ بَشَرِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَمَامًا كَحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ دِينِهِمْ.

إِذَا كَانَتْ لَدَيْكَ شُبُهَاتٌ، أَوْ اعْتِرَاضَاتٌ، يُسْعِدُنَا مُنَاقَشَتُهَا مَعَكَ، إِذَا كُنْتَ طَالِبًا لِلْحَقِّ، تَخَافُ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، فَمَا عَلَيْكَ غَيْرُ كِتَابَتِهَا فِي تَعْلِيقٍ، وَسَوْفَ نَرُدُّ عَلَيْكَ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ مُمْكِنٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

لِلْأَسَفِ لَمْ نَكْتَفِ بِمَا سَبَقَ، حَيْثُ أَنَّنَا الْيَوْمَ أَعْطَيْنَا حَقَّ التَّشْرِيعِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَبِصِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ تَمَامًا عَنْ اللَّهِ، فَالْمَجَالِسُ التَّشْرِيعِيَّةُ فِي بُلْدَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ تُعْتَبَرُ صَاحِبَةَ السُّلْطَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ تَسُنُّ الْقَوَانِينَ لِلنَّاسِ، وَلَا تُنْسَبُ تَشْرِيعَاتُهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالسُّؤَالُ، مَنْ أَعْطَى لِلشُّعُوبِ الْحَقَّ فِي أَنْ تُشَرِّعَ لِنَفْسِهَا مَا تَهْوَى، وَهِيَ لَمْ تَخْلُقْ نَفْسَهَا، وَلَمْ تَخْلُقْ الْأَرْضَ الَّتِي تَعِيشُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ؟ 

صِدْقًا إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى

﴿قُتِلَ الإِنسانُ ما أَكفَرَهُ﴾ 

[عبس: ١٧]

مُنْطَبِقٌ عَلَيْنَا تَمَامًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْجَهْلِ، وَالْحُمْقِ، الَّذِي أَصَابَ النَّاسَ، حَتَّى تَجَرَّأُوا أَنْ يُشَرِّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

مَا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِعْلُهُ إِزَاءَ هَذَا الْوَاقِعِ

إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِالْكُفْرِ بِكُلِّ مَصْدَرٍ لِلتَّشْرِيعِ غَيْرَ الْقُرْآنِ والسُّنَةِ، وَحَسْبُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا بَيَانُ بُطْلَانِ هَذِهِ الْمَصَادِرِ، وَدَعْوَةُ النَّاسِ إِلَى الْكُفْرِ بِهَا، وَاتِّبَاعُ الْوَحْيِ حَصْرًا، طَاعَةً لِأَمْرِ الله سُبْحَانَهُ:

﴿اتَّبِعوا ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعوا مِن دونِهِ أَولِياءَ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾ 

[الأعراف: ٣]

وَبَيَانُ شُبُهَاتِ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، الدَّاعِينَ إِلَى الشِّرْكِ الصَّرِيحِ، حَيْثُ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ ظُنُونِ الْبَشَرِ بَدَلًا مِنْ التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لِكَيْ نَنْجُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ حِينَ يَأْتِي، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يُنْجِي الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ كَمَا قَالَ :

﴿فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ أَنجَينَا الَّذينَ يَنهَونَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ﴾ 

[الأعراف: ١٦٥]

أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ:

﴿وَالَّذينَ يُمَسِّكونَ بِالكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنّا لا نُضيعُ أَجرَ المُصلِحينَ﴾ 

[الأعراف: ١٧٠]

آمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

تحميل البحث بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-