إِنًَ مَوْضُوعَ الْإِيمَانِ الَّذِي سَوْفَ أُنَاقِشُهُ مَعَكَ الْيَوْمَ مِنْ أَخْطَرِ الْمَوَاضِيعِ الَّتِي يُمْكِنُ نِقَاشُهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْطَرُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَذَابٌ أَبَدِيٌ، أَوْ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿هذانِ خَصمانِ اختَصَموا في رَبِّهِم فَالَّذينَ كَفَروا قُطِّعَت لَهُم ثِيابٌ مِن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوقِ رُءوسِهِمُ الحَميمُيُصهَرُ بِهِ ما في بُطونِهِم وَالجُلودُوَلَهُم مَقامِعُ مِن حَديدٍكُلَّما أَرادوا أَن يَخرُجوا مِنها مِن غَمٍّ أُعيدوا فيها وَذوقوا عَذابَ الحَريقِإِنَّ اللَّهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ يُحَلَّونَ فيها مِن أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤلُؤًا وَلِباسُهُم فيها حَريرٌوَهُدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَولِ وَهُدوا إِلى صِراطِ الحَميدِ﴾
[الحج: ١٩-٢٤]
فَنَحْنُ فِي مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ، أَمَامَ خِيَارَيْنِ، إِمَّا مُؤْمِنَيْنِ، فَنَكُونُ مِمَّنْ قَالَتْ الْآيَاتُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا، وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ.
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ كَافِرِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، فَيَكُونُ مَصِيرُنَا النَّارُ، قُطِّعَتْ لَنَا ثِيَابٌ مِنْهَا، وَيُصَبُّ عَلَيْنَا الْحَمِيمُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
وَلَا خِيَارَ ثَالِثٌ، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَنْتَبِهَ غَايَةَ الِانْتِبَاهِ وَنَحْنُ نُنَاقِشُ مَوْضُوعَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَسَاسُ الَّذِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا نَظَرًا لِكَوْنِ وَعْدِ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ مُرْتَبِطٌ بِهِ، كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَصِيرُنَا فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، كَمَا بَيَّنَتْ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ.
قَبْلَ مُنَاقَشَةِ مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ أَوَدُّ أَنْ أُذَكِّرَكَ بِأَنَّهُ مَا لَمْ تَتَجَرَّدْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ مُسْبَقًا، وَتُقْبِلَ عَلَى الْآيَاتِ كَالصَّفْحَةِ الْبَيْضَاءِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَسْتَفِيدَ شَيْئًا، كَمَا سَبَقَ وَشَرَحْتُ بِالتَّفْصِيلِ، لِذَلِكَ أَدْعُوكَ لِلتَّجَرُّدِ مِمَّا تَعْرِفُ مُسْبَقًا، حَتَّى نَبْدَأَ مِنْ الْبِدَايَةِ، وَنُؤَسِّسَ تَاسِيسًا صَحِيحًا، نَسْتَطِيعُ مِنْ خِلَالِهِ الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ، الْمَرْضِيِّ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَاَلَّذِي سَوْفَ يَكُونُ عَبْرَ الْمَحَاوِرِ التَّالِيَةِ:
- مَعنى الِايْمَانِ لُغَةً
- مَعنى الِايْمَانِ اصطِلاحًا
- أَرْكَانُ الْإِيمَانِ
- شُرُوطُ الْإِيمَانِ وَآثَارُهِ
- الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالإِحسانِ
- تَصَوُّرُنَا الْحَالِيُّ عَنِ الْإِيمَانِ
- تَأْثِيرُ تَصَوُّرِنَا عَنِ الْإِيمَانِ عَلَى وَاقِعِنَا
- الْخَاتِمَةُ
مَعنى الْإِيمَانِ لُغَةً
سَبَقَ وَذَكَرْتُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مُهِمَّةٌ جِدًّا فِي إِدْرَاكِ جَوْهَرِ مَا نَبْحَثُ عَنْهُ، فَالِاسْمُ مُخْبِرٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُسَمَّى، لِذَلِكَ لَابُدَّ مِنْ أَنْ نَعْرِفَ مَاذَا تَعْنِي كَلِمَةُ "إِيمَانٍ" فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَوَّلًا، قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ.
كَلِمَةُ "الْإِيمَانِ" مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجِذْرِ "أَمَنَ" وَمَعَانِيهَا تَدُورُ حَوْلَ الْأَمْنِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، يَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ
[أمن] الأَمانُ والأَمانَةُ بمعنىً. وقد أَمِنْتُ فأنا آمِنٌ. وآمَنْتُ غيري، من الامن والامان. والايمان: التصديق. والله تعالى المُؤْمِنُ، لأنّه آمَنَ عبادَه من أن يظلمهم. وأصل آمَنَ أَأْمَنَ بهمزتين، ليّنت الثانية. ومنه المهيمن، وأصله مؤأمن، لينت الثانية وقلبت ياء، وقلبت الاولى هاء. والأَمْنُ: ضدُّ الخوف. والأَمَنَةُ بالتحريك: الأَمْنُ. ومنه قوله عز وجل: (أمَنَةً نُعاساً) .
[الجوهري، أبو نصر ,الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ,5/2071]
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ:
(أَمَنَ) الْهَمْزَةُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ أَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَمَانَةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَمَعْنَاهَا سُكُونُ الْقَلْبِ، وَالْآخَرُ التَّصْدِيقُ. وَالْمَعْنَيَانِ كَمَا قُلْنَا مُتَدَانِيَانِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَمَنَةُ مِنَ الْأَمْنِ. وَالْأَمَانُ إِعْطَاءُ الْأَمَنَةِ. وَالْأَمَانَةُ ضِدُّ الْخِيَانَةِ.
[ابن فارس، مقاييس اللغة، ١٣٣/١]
إلَى أَنْ يَقُولَ :
وَأَمَّا التَّصْدِيقُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أَيْ: مُصَدِّقٍ لَنَا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ " الْمُؤْمِنَ " فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنْ يَصْدُقَ مَا وَعَدَ عَبْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ لِأَوْلِيَائِهِ يُؤْمِنُهُمْ عَذَابَهُ وَلَا يَظْلِمُهُمْ. فَهَذَا قَدْ عَادَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.
[ابن فارس، مقاييس اللغة، ١٣٥/١]
وَخُلَاصَةُ مَا سَبَقَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَعْنِي التَّصْدِيقَ، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْنِ، حَيْثُ يُنَجِّي اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ تَصْدِيقًا جَعَلَهُ يُأَمَّنُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
مَعنى الْإِيمَانِ اصطِلاحًا
إِنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ اصطِلاحًا هُوَ نَفْسُهُ التَّصْدِيقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
﴿قالوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبنا نَستَبِقُ وَتَرَكنا يوسُفَ عِندَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئبُ وَما أَنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا وَلَو كُنّا صادِقينَ﴾
[يوسف: ١٧]
أَيْ بِمُصَدِّقٍ لَنَا.
هَذَا التَّصْدِيقُ لَا يَكُونُ حَقًّا إِلَّا إِذَا صَاحَبَهُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَمُجَرَّدُ قَوْلِ أَنَا مُؤْمِنٌ دُونَ الْعَمَلِ لَا يُسَمَّى إِيمَانًا عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ يُسَمَّى كُفْرًا، أَيْ تَكْذِيبًا.
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
﴿وَإِذ أَخَذنا ميثاقَكُم لا تَسفِكونَ دِماءَكُم وَلا تُخرِجونَ أَنفُسَكُم مِن دِيارِكُم ثُمَّ أَقرَرتُم وَأَنتُم تَشهَدونَثُمَّ أَنتُم هؤُلاءِ تَقتُلونَ أَنفُسَكُم وَتُخرِجونَ فَريقًا مِنكُم مِن دِيارِهِم تَظاهَرونَ عَلَيهِم بِالإِثمِ وَالعُدوانِ وَإِن يَأتوكُم أُسارى تُفادوهُم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيكُم إِخراجُهُم أَفَتُؤمِنونَ بِبَعضِ الكِتابِ وَتَكفُرونَ بِبَعضٍ فَما جَزاءُ مَن يَفعَلُ ذلِكَ مِنكُم إِلّا خِزيٌ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ القِيامَةِ يُرَدّونَ إِلى أَشَدِّ العَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَأُولئِكَ الَّذينَ اشتَرَوُا الحَياةَ الدُّنيا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذابُ وَلا هُم يُنصَرونَ﴾
[البقرة: ٨٤-٨٦]
فَقَوْلُهُ :
أَفَتُؤمِنونَ بِبَعضِ الكِتابِ
أَيْ تَعْمَلُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، وَهُوَ مُفَادَاةُ الْأَسْرَى، وَقَوْلُهُ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
أَيْ لَا تَعْمَلُونَ بِبَعْضٍ، وَهُوَ عَدَمُ سَفْكِ دِمَائِكُمْ وَإِخْرَاجُ بَعْضِكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ.
فَهُنَا سَمَّى اللَّهُ الْعَمَلَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ إِيمَانًا بِهِ، وَسَمَّى عَدَمَ الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ كُفْرًا بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِأَنَّ الْكِتَابَ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.
كَذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى :
﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارًا بِئسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾
[الجمعة: ٥]
وَوَضَعْنَا فِي الْحُسْبَانِ أَنَّ الْيَهُودَ يَعْتَرِفُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ كَلَامُ اللَّهِ، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، فَإِنَّنَا نُدْرِكُ بِوُضُوحٍ أَنَّ عَدَمَ الْعَمَلِ يُسَمَّى تَكْذِيبًا عِنْدَ اللَّهِ، فَهُمْ حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِالتَّوْرَاةِ كَانَ حَمْلُهُمْ لَهَا، كَحَمْلِ الْحِمَارِ لِكُتُبٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَهُوَ لَا يَعْمَلُ بِهَا، كَمَا لَا يَعْمَلُونَ هُمْ بِالتَّوْرَاةِ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ وَصْفَهُمْ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالتَّوْرَاةِ فِي قَوْلِهِ:
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
وَالظُّلْمِ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ
لِكَيْ تَتَّضِحَ النُّقْطَةُ السَّابِقَةُ أَضْرِبُ الْمَثَلَ التَّالِيَ
لِنَفْتَرِضَ أَنَّ زَيْدًا يَقُولُ إِنَّنِي أُصَدِّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿الَّذينَ يَأكُلونَ الرِّبا لا يَقومونَ إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُم قالوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَن عادَ فَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾
[البقرة: ٢٧٥]
لِذَلِكَ الرِّبَا حَرَامٌ، وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ، وَلَكِنِّي سَوْفَ أُمَارِسُ الرِّبَا، وَهُوَ وَسِيلَةُ رِزْقِي الَّذِي أَقْتَاتُ مِنْهُ.
زَيْدٌ هَذَا بِحَسَبِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ هُوَ كَافِرٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ بِهَا، مَثَلُهُ مَثَلُ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِحُرْمَةِ سَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِخْرَاجِ انْفُسِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ :
وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ.
إِنَّ رَبْطَ الْعَمَلِ بِالتَّصْدِيقِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِالتَّكْذِيبِ، هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بَدَاهَةً، لِأَنَّ الْمَرْءَ مَتَى صَدَّقَ، عَمِلَ لَا مَحَالَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْمَلْ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ التَّصْدِيقَ، فَالْعَمَلُ هُوَ مِقْيَاسُ مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿المأَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَوَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبينَ﴾
[العنكبوت: ١-٣]
أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَذَلِكَ بِصَبْرِهِمْ فِي الْمِحَنِ وَتَجَاوُزِهِمْ الْفِتَنَ، فَالْفِتَنُ هِيَ الْمِقْيَاسُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ الْمَرْءِ فِي دَعْوَاهُ الْإِيمَانَ مِنْ كَذِبِهِ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ مَرَدُّهُ عَلَى الصِّدْقِ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿وَإِذ أَخَذنا مِنَ النَّبِيّينَ ميثاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نوحٍ وَإِبراهيمَ وَموسى وَعيسَى ابنِ مَريَمَ وَأَخَذنا مِنهُم ميثاقًا غَليظًالِيَسأَلَ الصّادِقينَ عَن صِدقِهِم وَأَعَدَّ لِلكافِرينَ عَذابًا أَليمًا﴾
[الأحزاب: ٧-٨]
فَبَعْثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَخْذُ مِيثَاقِهمْ كُلَّ ذَلِكَ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، أَيْ يَرْفَعُهُمْ بِهِ، وَيُعَذِّبَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَصدُقُوا مَعَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي دَعْوَاهُمْ الْإِيمَانَ.
أركان الإيمان
بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَمَلِ، كَانَ مِنْ الضَّرُورِيِّ بَيَانُ صُوَّرٍ عَمَلِيَّةٍ مِنْ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ تُحَدِّدُ الْبَوْصَلَةَ لِلْمُؤْمِنِ، وَمِنْ هُنَا أَتَى حَدِيثُ جِبْرِيلَ، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
[مسلم، صحيح مسلم، ٣٦/١]
وَإِلَيْكَ بَعْضُ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ:
الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ
إِنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيٍّ، فَهَذَا يَعْتَرِفُ بِهِ إِبْلِيسُ وَكُلُّ الْكُفَّارِ، - حَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُلْحِدُونَ، فَهُمْ فِي قَرَارَةِ أَنْفُسِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ لِهَذَا الْكَوْنِ خَالِقًا وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَهُ مُكَابَرَةً - وَإِنَّمَا يَعْنِي الْعَمَلَ وِفْقًا لِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ، وَصَوَّرَكَ، وَشَقَّ سَمْعَكَ، وَبَصَرَكَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ الَّتِي تَعِيشُ عَلَيْهَا، وَالسَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكَ، وَالرِّزْقَ الَّذِي تَعِيشُ بِهِ، وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، كُلُّ هَذَا يُتَرْجَمُ عَمَلِيًّا بِأَنَّكَ لَا تَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَا تَخْضَعُ وَلَا تُطِيعُ غَيْرَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُكَذِّبُ بِمَا أَخْبَرَكَ بِهِ، فَمَتَى لَمْ تَعْبُدْهُ وَحْدَهُ،
﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنّورَ ثُمَّ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِم يَعدِلونَ﴾
[الأنعام: 1]
أَوْ كَذَّبْتَ مَا قَالَ
﴿وَإِن تَعجَب فَعَجَبٌ قَولُهُم أَإِذا كُنّا تُرابًا أَإِنّا لَفي خَلقٍ جَديدٍ أُولئِكَ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِم وَأُولئِكَ الأَغلالُ في أَعناقِهِم وَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾
[الرعد: 5]
أو اتَّخَذتَ مُشَرِعينَ يُشَرِعونَ لكَ
﴿أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾
[الشورى: 21]
كُنْتَ كَافِرًا بِاَللَّهِ، وَلَوْ كُنْتَ تُكَرِّرُ بِلِسَانِكَ أَنَّكَ مُؤْمِنٌ بِهِ.
فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ قَوْلٍ بِاللِّسَانِ، وَإِلَّا فَإِبْلِيسُ يُقِرُّ بِلِسَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ :
﴿قالَ رَبِّ فَأَنظِرني إِلى يَومِ يُبعَثونَ﴾
[ص: ٧٩]
وَلَكِنَّهُ كَفَرَ بِاللَّهِ حِينَ أَصَرَّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلّا إِبْلِيسَ أَبِى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
[الْبَقَرَةِ: ٣٤]
لِذَلِكَ فَتَصَوُّرُ بَعْضِنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مُجَرَّدُ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ تَصَوُّرٌ خَاطِئٌ تَمَامًا، فَمَا لَمْ نَعْبُدْ اللَّهَ وَحْدَهُ، فَإِنَّنَا كَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَلَوْ لَمْ نَعْتَرِفْ بِهَا.
الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ
مِنَ الْإِيمَانِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَا يَنْجُمُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةٍ لَهُمْ، فَهُمْ مِثَالٌ لِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَهَذَا مَا يَسْعَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ .
إِنَّ فِي الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ إِيمَانٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ اللَّا مُتَنَاهِيَةٍ، حَيْثُ أَنَّ خَلْقَهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نُشَاهِدُهُ، بَلْ إِنَّهُ يَخْلُقُ مَا لَا نَسْتَطِيعُ مُشَاهَدَتَهُ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الْمَادَّةَ لَيْسَتْ إِلَّا جُزْءًا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ .
وَمِنْ ثُمَّ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ يُعْطِي لِلْمُؤْمِنِ بُعْدًا غَيْرَ الْبُعْدِ الْمَادِّيِّ، يَنْعَكِسُ فِي تَصَوُّرَاتِهِ عَنْ الْحَيَاةِ وَعَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْمَادِّيِّ الَّذِي هُوَ فَاقِدٌ لِلْجَوْهَرِ الرُّوحِيِّ، مِمَّا يَجْعَلُ حَيَاتَهُ فَاقِدَةً لِأَيِّ مَعْنًى حَقِيقِيٍّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ
سَبَقَ وَذَكَرْتُ فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَعْنِي الْعَمَلَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ يَعْنِي الْعَمَلَ بِهَا.
قَدْ يَتَسَاءَلُ الْبَعْضُ كَيْفَ يُمْكِنُنَا الْعَمَلُ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَنَحْنُ لَا نَجِدُهَا، وَالْجَوَابُ يَكْمُنُ فِي الْعَمَلِ بِالرِّسَالَةِ الْخَاتَمِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِمَا سَبَقَهَا مِنْ كُتُبٍ وَمُهَيْمِنَةٌ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ فَاحكُم بَينَهُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِع أَهواءَهُم عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلنا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهاجًا وَلَو شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً واحِدَةً وَلكِن لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾
[المائدة: ٤٨]
كَمَا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
لِذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هُوَ إِيمَانٌ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.
إِنَّ كُتُبَ اللَّهِ هِيَ الْحَقُّ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَهِيَ قَوْلٌ ثَقِيلٌ جِدًّا، وَصَفَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:
﴿إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾
[الْمُزَّمِّلُ: 5]
لِذَلِكَ فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْبَشَرِ يَكْفُرُ بِهَا، إِمَّا قَوْلًا وَعَمَلًا، أَوْ عَمَلًا فَقَطْ، أَوْ يُحَرِّفُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا لِتُنَاسِبَ هَوَاهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا لَيْسَ بِالْأَمْرِ السَّهْلِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ تُقَالُ، بَلْ هو تُحْمَلٌ لِحَمْلٍ ثَقِيلٍ فَشِلَتْ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ فِي حَمْلِهِ
﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارًا بِئسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾
[الجمعة: 5]
الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ يَتَجَاوَزُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِلَى طَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌقُل أَطيعُوا اللَّهَ وَالرَّسولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ﴾
[آل عمران: ٣١-٣٢]
﴿وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إِلّا لِيُطاعَ بِإِذنِ اللَّهِ﴾
[النساء: 64]
لِذَلِكَ فَلَيْسَ لَنَا الْخِيَارُ فِي طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ لَا إِيمَانَ بِدُونِهَا.
إِنَّ مُشْكِلَةَ الْبَشَرِ دَوْمًا مَعَ الْإِيمَانِ هِيَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ، فَالْبَشَرُ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى طَاعَةِ الرُّسُلِ، وَهَذَا يَظْهَرُ جَلِيًّا فِي أَجْوِبَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ الَّتِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ :
﴿فَقالوا أَبَشَرًا مِنّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنّا إِذًا لَفي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾
[القمر: ٢٤]
وفي قوله:
﴿قالوا ما أَنتُم إِلّا بَشَرٌ مِثلُنا وَما أَنزَلَ الرَّحمنُ مِن شَيءٍ إِن أَنتُم إِلّا تَكذِبونَ﴾
[يس: ١٥]
فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِاَللَّهِ، وَيُسَمُّونَهُ بِالرَّحْمَنِ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ اسْتِكْبَارًا مِنْهُمْ، فَهُمْ يَأْبَوْنَ أَنْ يَكُونُوا تَابِعِينَ لَهُمْ، رَغْمَ كَوْنِهِمْ فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ يَعْلَمُونَ بِصِدْقِ رُسُلِهِمْ.
يَظْهَرُ أَحْيَانًا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْكُفْرِ الْعَمَلِيِّ بِالرُّسُلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ الْمَرْءُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِعْلًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ مُبَاشَرَةً، وَالسَّبَبُ هُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى فَهْمِهِ رَغْمَ كَوْنِهِ يُعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ، أَيْ أَنَّ بَيَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَافِيًا، أَوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ، وَهَذَا طَعْنٌ فِي أَدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُهِمَّتِهِ أَتَّخَذَهُ الْمَرْءُ حَتَّى يُبَرِّرَ لِنَفْسِهِ عَدَمَ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَعْنٌ كَاذِبٌ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَدَّى الْبَلَاغَ الْمُبَينَ كَمَا كَلَّفَهُ رَبُّهُ، فَمَا نَحْتَاجُ بَعْدَ بَيَانِهِ إِلَى بَيَانٍ، وَمَا عَلَيْنَا سِوَى طَاعَتِهِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا.
الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
أَيْضًا يَتَجَاوَزُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُجَرَّدَ الِاعْتِرَافِ بِالْبَعْثِ، إِلَى الْعَمَلِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ.
فَمَنْ يُؤْمِنُ حَقًّا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لَنْ يَكُونَ لَهُ إِرَادَةٌ إِلَّا لِلْفَوْزِ بِمَرْضَاتِ اللَّهِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ، وَلِذَلِكَ إِرَادَةُ الدُّنْيَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْمَرْءِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿مَن كانَ يُريدُ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمالَهُم فيها وَهُم فيها لا يُبخَسونَأُولئِكَ الَّذينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وَباطِلٌ ما كانوا يَعمَلونَ﴾
[هود: ١٥-١٦]
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ الْمُحَرِّكُ الْفِعْلِيُّ لِلْإِيمَانِ، لِأَنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا صَدَّقَ فِعْلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿فَاعبُدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ قُل إِنَّ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم وَأَهليهِم يَومَ القِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُلَهُم مِن فَوقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِن تَحتِهِم ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقونِ﴾
[الزمر: ١٥-١٦]
وَتَصَوَّرَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ سَوْفَ يَخَافُ خَوْفًا شَدِيدًا، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ طَاعَةَ اللَّهِ، أَسْأَلُ اللَّهَ انْ يُنَجِنِي وَإِيَّاكَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ آمِينَ
إِنَّ هَذَا الْخَوْفَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَهُ نَتَائِجُ إِيجَابِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهَمِّهَا :
التَّوَثُّقُ فِي أَمْرِ الدِّينِ
أَيْ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ لَنْ يَقْبَلَ أَنْ يَدِينَ اللَّهَ بِالظَّنِّ أو بمذهب، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَأَكَّدَ كُلَّ التَّأَكُّدِ مِمَّا يَدِينُ اللَّهَ بِهِ، فَلَا فُرْصَةَ غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْمُخَاطَرَةُ كَبِيرَةٌ، فَهِيَ إِمَّا سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ، أَوْ شَقَاءٌ أَبَدِيٌ، لِذَلِكَ لَنْ يَقْبَلَ فَتْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ صَرِيحٍ وَاضِحٍ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ.
الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا
فَالدُّنْيَا لَمْ تَعُدْ بِدَارِ قَرَارٍ، لِأَنَّهَا حَرْفِيًّا لَا تُسَاوِي شَيْئًا، مُقَارَنَةً بِالْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ أَبَدِيَّةٌ بَيْنَمَا الدُّنْيَا مَهْمَا طَالَتْ مَصِيرُهَا إِلَى زَوَالٍ
إِنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا يَنْتِجُ عَنْهُ أَمْرَيْنِ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ أَيْضًا وَهُمَا:
تَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنَ الْخِصَالِ السَّيِّئَةِ، وَالتَّخَلُّقُ بِالْخِصَالِ الْحَسَنَةِ، لِأَنَّ سَبَبَ كُلِّ الْخِصَالِ السَّيِّئَةِ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، فَالْكَذِبُ، وَالنِّفَاقُ، وَالْغَدْرُ، وَغَيْرُهَا كُلُّهَا، بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالِاغْتِرَارِ بِهَا، بَيْنَمَا الْخِصَالُ الْحَسَنَةُ هِيَ السَّبِيلُ الْوَحِيدُ لِلنَّجَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا، نَعَمْ فَسَبَبُ الشَّقَاءِ هُوَ التَّعَلُّقُ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا زَهِدَ الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ تَقْدِرْ الدُّنْيَا عَلَى أَنْ تُسَبِّبَ لَهُ حُزْنًا، فَهِيَ أَتْفَهُ مِنْ أَنْ تُحْزِنَهُ.
إِنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ هُوَ السَّبَبُ الْفِعْلِيُّ وَرَاءَ كُلِّ الْجَرَائِمِ الَّتِي تُرْتَكَبُ فِي الْأَرْضِ، فَالْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ يُسِيءُ الْأَدَبَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ بِالْآخِرَةِ يَتَجَرَّأُونَ عَلَى الْجَرَائِمِ النَّكْرَاءِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يُجَاوِزْنَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَلِكَيْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ مُؤْلِمَةً جِدًّا، فَإِنَّ اللَّهَ يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ:
﴿إِنَّ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُم أَعمالَهُم فَهُم يَعمَهونَأُولئِكَ الَّذينَ لَهُم سوءُ العَذابِ وَهُم فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخسَرونَ﴾
[النمل: 4-5]
وَعَلَيْهِ عَلَيْنَا بِمُرَاجَعَةِ إِيمَانًا بِالْآخِرَةِ بِاسْتِمْرَارٍ وَذَلِكَ بِطَرْحِ السُّؤَالِ:
هَلْ نَحْنُ فِعْلًا مُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؟
فِيمَاذَا يَتَجَلَّى إِيمَانُنَا بِالْآخِرَةِ؟
مَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُمْكِنُنِي فِعْلُهُ الْآنَ وَيَكُونُ مُفِيدًا لِي فِي الْآخِرَةِ؟
طَرْحُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ بِاسْتِمْرَارٍ كَفِيلٌ بِجَعْلِ إِيمَانِنَا بِالْآخِرَةِ إِيمَانًا عَمَلِيًّا حَيًّا، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ إِيمَانٍ نَظَرِيٍّ مُجَرَّدٍ عَنْ الْوَاقِعِ.
الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ
إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا جَزَعَ، وَلَا حَسْرَةَ عَلَى مَا يَحْدُثُ لِلْمَرْءِ مِنْ مَكَارِهٍ، وَإِنَّمَا تَقَبُّلٌ، وَرِضًا بِقَدَرِ اللَّهِ مَهْمَا كَانَ.
إِنَّ نِعْمَةَ الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ تُورِثُ فِي النَّفْسِ رَاحَةً لَا مَثِيلَ لَهَا، تَجْعَلُ الْمَرْءَ يَطْمَئِنُّ أَنَّهُ لَيْسَ مَتْرُوكًا لِلصُّدَفِ، فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
شُرُوطُ الْإِيمَانِ وَآثَارُهُ
إِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عَرَّفْنَاهُ سَابِقًا بِأَنَّهُ التَّصْدِيقُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَمَلِ، لَهُ مَجْمُوعَةٌ مِنْ الشُّرُوطِ إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَعْضُ هَذِهِ الشُّرُوطِ هِيَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ عَلَى الْفَرْدِ بِحَيْثُ أَنَّهَا إِذَا أَنْ تَتَحَقَّقَ دَلَّ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَبَعْضُهَا شُرُوطٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لَابُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا لِكَيْ يَتَحَقَّقَ الْإِيمَانُ وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلَ ذَلِكَ :
الْإِيمَانُ طَوَاعِيَةً وَقَنَاعَةً
مِنْ أَوَّلِ شُرُوطِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ إِلَّا بِهَا الْإِيمَانُ طَوَاعِيَةً وَقَنَاعَةً، لِأَنَّهُ مَتَى آمَنَ الشَّخْصُ خُضُوعًا لِغَيْرِ اللَّ،هِ كَانَ مُشْرِكًا بِهِ، لِأَنَّ الْخُضُوعَ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ:
﴿لا إِكراهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى لَا انفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ﴾
[البقرة: 256]
وَأَكَّدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ، ثَلَاثًا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ
البخاري، صحيح البخاري، ط السلطانية 28/1
مَحَلُّ الشَّاهِدِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُوقِنٌ، قَدْ مَيَّزَ رَسُولَهُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَوَجَدَ فِي رِسَالَتِهِ الْأَدِلَّةَ الْقَاطِعَةَ وَالْهِدَايَةَ، فَآمَنَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مُقَلِّدٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ يَقُولُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ انْتَشَرَ بِقُوَّةِ السَّيْفِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ﴾
[الأنفال: 39]
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ.
البخاري صحيح البخاري ط السلطانية 14/1
وَهُمْ فِي هَذَا مُخْطِئُونَ، لِأَنَّ الْقِتَالَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدْخُلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ سِيَادَةِ دِينِ اللَّهِ عَلَى أَرْضٍ كُلِّهَا، بِحَيْثُ يَخْضَعُ الْجَمِيعُ لِشَرْعِ اللَّهِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَمْ كُفَّارا.
لِذَلِكَ نَجِدُ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَهْلَ الذِّمَّةِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ، وَيُمَارِسُونَ دِينَهُمْ تَحْتَ سُلْطَةِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لِذَلِكَ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلَّانِ أَبَدًا عَلَى إِكْرَاهِ النَّاسِ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ أَصْلًا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَرْءُ مُكْرَهًا.
التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبَلُ الشِّرْكَ، فَلَابُدَّ مِنْ إِخْلَاصٍ مُطْلَقٍ لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، بِحَيْثُ يُسَلِّمُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَالْجَوَارِحَُ تَسْلِيمًا مُطْلَقًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَرْءَ لَمْ يُؤْمِنْ بَعْدُ، وَهَذَا مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ رَبُّنَا بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ:
﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسليمًا﴾
[النساء: 65]
إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ تَسْلِيمٌ مُطْلَقٌ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُم يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهَا، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا سَيَكُونُ لِصَالِحِ أَحَدِهِمَا عَلَى حِسَابِ الْآخَرِ، وَهَذَا الْحُكْمُ قَدْ لَا يُوَافِقُ الصَّوَابَ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُقَدِّمُهُ كُلُّ طَرَفٍ مِنْ حُجَجٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا
البخاري، صحيح البخاري ط السلطانية 180/3
مَطْلُوبٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا سَبَقَ أَنْ يَقْبَلَ الْمَحْكُومُ ضِدَّهُ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْقَادَ لَهُ انْقِيَادًا مُطْلَقًا، بِحَيْثُ لَا يَكُنْ فِي نَفْسِهِ حَرَجٌ مِنْهُ، رَغْمَ كَوْنِهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْآخَرَ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الْبَيَانِ مِنْهُ.
هَذَا التَّسْلِيمُ هُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ فَإِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا إِيمَانَ، يَعْنِي لَوْ أَنَّ الْمَحْكُومَ ضِدُّهُ قَبِلَ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ، وَلَكِنَّ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ حَرَجٌ، فَهَذَا الْمَحْكُومُ ضِدُّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَاَللَّهُ هُوَ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِ بِنَفْسِهِ، لِذَلِكَ عَلَيْنَا أَنْ نُرَاجِعَ تَسْلِيمَ أَنْفُسِنَا لِحُكْمِ اللَّهِ.
إِنَّ السَّبَبَ وَرَاءَ تَسْلِيمِ الْمُؤْمِنِ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْمَا كَانَ، هُوَ الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ، وَمَعْرِفَتُهُ الْيَقِينِيَّةُ أَنَّ حَقَّهُ لَنْ يَضِيعَ، وَأَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ خَصْمَهُ الَّذِي حُكِمَ لِمَصْلَحَتِهِ إِنَّمَا اقْتُطِعَتْ لَهُ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، لِذَلِكَ لَا جَزَعَ، وَلَا ظُلْمَ مُسْتَمِرٌّ، وَإِنَّمَا صَبْرٌ وَادِّخَارٌ لِلْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ، حَيْثُ يَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ.
حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ
مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ
البخاري، صحيح البخاري، ط السلطانية، 12/1
وَهَذَا الْحُبُّ يَجِبُ أَنْ يَتَجَلَّى فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الأَنفالِ قُلِ الأَنفالُ لِلَّهِ وَالرَّسولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصلِحوا ذاتَ بَينِكُم وَأَطيعُوا اللَّهَ وَرَسولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾
[الأنفال: 1]
وَمَنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ﴾
[التوبة: 24]
الْوَلَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحُبُّهِمْ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْكُفَّارِ
مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِهَا الْوَلَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحُبُّهِمْ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾
[يوسف: 108]
حَيْثُ تَبَرَّأَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعونَ﴾
[المائدة: 55]
فَالْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِ إِيمَانِهِ يَنْتَمِي لِفُسْطَاطِ الْمُؤْمِنِينَ، هُمْ أَهْلُهُ، وَإِخْوَانُهُ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أَلْوَانِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْمَنَاطِقِ الَّتي أَتَوْا مِنْهَا، وَبَرِيءٌ مِنْ فُسْطَاطِ الْكُفَّارِ، فَلَا هُوِيَّةَ مُعْتَرَفٌ بِهَا فِي شَرْعِ اللَّهِ غَيْرَ هُوِيَّتَيْنِ مُؤْمِنٌ، وَكَافِرٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿هُوَ الَّذي خَلَقَكُم فَمِنكُم كافِرٌ وَمِنكُم مُؤمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾
[التغابن: 2]
الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لَا يُؤْمَنُ حَتَّى يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
البخاري، صحيح البخاري ط السلطانية ١/١٢
أَمَّا الْكَافِرُ فَالْمُؤْمِنُ مِنْهُ بَرَاءٌ لَا انْتِمَاءَ لَهُ وَلَا وَلَاءَ، وَالْعَلَاقَةُ مَعَهُ تَتَّحِدُ وِفْقَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِحَسَبِ نَوْعِهِ مِنْ الْكُفَّارِ.
الِاهْتِدَاءُ بِالْوَحْيِ
إِنَّ الْقَارِئَ لِلْقُرْآنِ لَيُدْرِكُ بِوُضُوحٍ أَنَّ الْإِيمَانَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنَّا فِي صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ الِاهْتِدَاءُ بِالْوَحْيِ شَرْطا مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الشَّخْصِ لَا يُعْتَبَرُ مُؤْمِنًا، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾
[الأنفال: 2]
لِأَنَّ "إِنَّمَا" تُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّوْكِيدَ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ فَقَطْ أُولَئِكَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، فَمَنْ لَمْ تَزِدْهُ آيَاتُ اللَّهِ حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِ إِيمَانًا لَيْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ حَتّى إِذا خَرَجوا مِن عِندِكَ قالوا لِلَّذينَ أوتُوا العِلمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَاتَّبَعوا أَهواءَهُم﴾
[محمد: ١٦]
الِاحْتِجَاجُ بِالْوَحْيِ حَصْرًا
مِنْ شُرُوطِ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الِاحْتِجَاجُ بِالْوَحْيِ حَصْرًا وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنازَعتُم في شَيءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلًا﴾
[النساء: 59]
فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ حَقًّا لَنْ يَقْبَلَ إِلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ بِرَدِّ التَّنَازُعِ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَصْرًا فَاللَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْنَا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، لِمَا يَعْنِي ذَلِكَ مِنْ الْخُضُوعِ لِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِذَلِكَ نَجِدُ الِاسْتِنْكَارَ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ فِي قَوْلِهِ:
﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزعُمونَ أَنَّهُم آمَنوا بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ وَقَد أُمِروا أَن يَكفُروا بِهِ وَيُريدُ الشَّيطانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالًا بَعيدًا﴾
[النساء: 60]
الْعِزَّةُ وَحَصْرُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ
مِنْ نَتَائِجِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْعَزِيزِ الْفَوْرِيَّةِ الرِّفْعَةُ وَالْعِزَّةُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ لِلْقَوِيِّ الْعَزِيزِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ قَوِيٌّ بِاَللَّهِ لَا يَخْشَى إِلَّا اللَّهَ وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾
[آل عمران: 139]
فَالْإِيمَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْهَوَانِ، هَذَا مُسْتَحِيلٌ، وَلِذَلِكَ عَدَمُ الْهَوَانِ وَالْحُزْنِ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ.
كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّ اللَّهَ مُدَبِّرُ كُلِّ شَيْءٍ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، تُتَرْجَمُ عَمَلِيًّا فِي كَوْنِهِ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَبُّنَا فِي قَوْلِهِ:
﴿إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيطانُ يُخَوِّفُ أَولِياءَهُ فَلا تَخافوهُم وَخافونِ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾
[آل عمران: 175]
فَالْمُؤْمِنُ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ.
عَدَمُ الظُّلْمِ
يُقْسِمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الظَّالِمِ حِينَ يَقُولُ:
وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ . قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ
البخاري، صحيح البخاري، ط السلطانية، 10/8
فَالْمُؤْمِنُ لَا يَظْلِمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَحَدَّثُ عَنْ الظَّالِمِ الَّذِي عُرِفَ بِالظُّلْمِ حَتَّى صَارَ جَارُهُ لَا يَأْمَنُ بَوَائِقَهُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَقْضِي بَيْنَ الْعِبَادِ لِذَلك لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى الظُّلْمِ حَتَّى يُصْبِحَ عَادَةً لَهُ، وَمِنْ ثَمَّ نَفْهَمُ قَسَمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالإِحسانِ
بَعْدَ أَنْ عَرَفْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْمَقَالِ السَّابِقِ، وَعَرَفْنَا الْإِيمَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّطُورِ، فَإِنَّنَا نَسْتَنْتِجُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ مُسَمَّيَانِ لِنَفْسِ الْمُسَمَّى، فَالْإِسْلَامُ هُوَ أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَتُطِيعَهُ وَحْدَهُ، وَالْإِيمَانُ أَيْضًا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.
إِذَا أَرَدْنَا التَّفْصِيلَ، فَإِنَّنَا نَقُولُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ قَرَارٌ بِأَنْ يُسَلِّمَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَالْإِيمَانُ هُوَ تَنْفِيذُ ذَلِكَ الْقَرَارِ عَمَلِيًّا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿قالَتِ الأَعرابُ آمَنّا قُل لَم تُؤمِنوا وَلكِن قولوا أَسلَمنا وَلَمّا يَدخُلِ الإيمانُ في قُلوبِكُم وَإِن تُطيعُوا اللَّهَ وَرَسولَهُ لا يَلِتكُم مِن أَعمالِكُم شَيئًا إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾
[الحجرات: ١٤]
فَالْأَعْرَابُ أَسْلَمُوا، مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا قَرَارَ الْإِسْلَامِ ظَاهِرِيًّا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنَفِذُوا بَعْدُ قَرَارَ الْإِسْلَامِ الْمُتَمَثِّلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ طَاعَةً مُطْلَقَةً، نَابِعَةً عَنْ تَصْدِيقٍ لَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ الشَّكُّ، حَيْثُ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ حَاصِرًا الْمُؤْمِنِينَ فِي :
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾
[الْحُجُرَاتُ: ١٥]
فَمَنْ آمَنَ وَلَمْ يَرْتَبْ وَجَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ هُوَ الصَّادِقُ فِي إِيمَانِهِ.
إِنَّ القَوْلَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ إِذَا اجْتَمَعَا، أَفَادَ الْإِسْلَامُ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ، وَأَفَادَ الْإِيمَانُ الْأَعْمَالَ الْقَلْبِيَّةَ، سَبَبُهُ فَصْلُ الْعَمَلِ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَا بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ سَابِقًا، حَيْثُ أَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ.
وَأَيْضًا تَرُدُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ، فَالْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَرَبُّنَا هُنَا عَدَّهُ مِنْ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، الَّتِي لَا إِيمَانَ بِدُونِهَا .
إِذَا تَمَعَنَّا فِي تَعْرِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِحْسَانِ حِينَ قَالَ:
أن تعبد الله كأنك تراه. فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ
مسلم، صحيح مسلم ٣٦/١
فَإِنَّنَا نَسْتَنْتِجُ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِخْلَاصٌ فِي الْعَمَلِ لِأَقْصَى دَرَجَةٍ، حَيْثُ يَعْبُدُ الْمَرْءُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، يَعْنِي بُلُوغَ دَرَجَةِ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.
أَيْ أَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ التَّفَانِي فِي الْإِيمَانِ بِحَيْثُ يَعْبُدُ الْمَرْءُ اللَّهَ كَمَا لَوْ كَانَ يَرَاهُ، أَيْ أَنَّ الْإِحْسَانَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ.
تَصَوُّرُنَا الْحَالِيُّ عَنِ الْإِيمَانِ
لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ يَبْرُزُ تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ بَيْنَ تَعْرِيفِنَا لِلْإِيمَانِ نَظَرِيًّا، وَبَيْنَ تَطْبِيقِهِ عَمَلِيًّا، وَإِلَيْكَ بَيَانُ ذَلِكَ، فَنَحْنُ نُعَرِّفُ الْإِيمَانَ نَظَرِيًّا بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وَلَكِنَّنَا عِنْدَ التَّطْبِيقِ نُسْقِطُ الْعَمَلَ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَإِلَيْكَ الدَّلِيلُ.
إِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ مَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ فَاجتَنِبوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾
[المائدة: ٩٠]
وَأَقَرَّ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَلَكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَعَصْرِهِ وَبَيْعِهِ، هَذَا الشَّخْصُ إِذَا سَأَلْتَ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ هَلْ يُعْتَبَرُ مُؤْمِنًا بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ؟
فَإِنَّهُمْ سَوْفَ يَقُولُونَ نَعَمْ، هُوَ مُؤْمِنٌ بِهَا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ عَمَلِهِ بِهَا.
مِمَّا يَعْنِي أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا الْعَمَلَ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِعْلِيًّا، رَغْمَ كَوْنِهِمْ يُثْبِتُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُنَا يَبْرُزُ التَّنَاقُضُ، وَاَلَّذِي لَهُ عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ جِدًّا سَوْفَ نَتَحَدَّثُ عَنْهَا فِيمَا يَلِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
بِالنِّسْبَةِ لَنَا نَحْنُ، فَإِنَّنَا نَقُولُ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ كَافِرٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالتَّالِي هُوَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَدَلِيلُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتٍ تَجْعَلُ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
[البخاري ,صحيح البخاري ,3/136]
فَوَقْتَ مُمَارَسَةِ الْجَرِيمَةِ، وَوَقْتَ إِصْرَارِ الْمَرْءِ عَلَيْهَا، يَنْتَفِي الْإِيمَانُ تَمَامًا عَنْ الشَّخْصِ حَتَّى يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ.
إِنَّ تَنَاقُضَهُمْ السَّابِقَ خَرَجَ فِي صُورَةِ مَقُولَةٍ فِي غَايَةِ الْخُطُورَةِ وَهِيَ :
الْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ
حَيْثُ تَعْنِي بَقَاءَ الْإِيمَانِ وَقْتَ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا مُنَافٍ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّابِقِ، كَمَا أَنَّهُ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي هُيَ الطَّاعَةُ، وَأَنَّى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ سِيَّانِ.
نَعَمْ، الْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَبِالتَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَإِذا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زادَتهُم إيمانًا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾
[الأنفال: ٢]
وَبِالْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
[الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩]
كَمَا أَنَّهُ يَضْعُفُ بِطُولِ الْعَهْدِ:
﴿أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قُلوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتُوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهُم فاسِقونَ﴾
[الحديد: 16]
وَلَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْمَعْصِيَةِ، فَوَقْتَ مُمَارَسَةِ الْمَعْصِيَةِ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ أَصْلًا كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ السَّابِقُ.
لَيْسَ مَعْنَى كَلَامِي هَذَا، أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، أَوْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَعْصِيَةِ، أَوْ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَالْمُؤْمِنُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ، وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهَا أَبَدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَالَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالكاظِمينَ الغَيظَ وَالعافينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَوَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَأُولئِكَ جَزاؤُهُم مَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم وَجَنّاتٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها وَنِعمَ أَجرُ العامِلينَ﴾
[آل عمران: ١٣٣-١٣٦]
وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ سَوْفَ أُبَيِّنُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَقَالٍ قَادِمٍ مَوْضُوعَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَتَى تَكُونُ زَلَّةً، صَاحِبُهَا يَبْقَى مُسْلِمًا، وَمَتَى تَكُونُ كُفْرًا مُخْرِجًا مِنْ الْمِلَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
تَأْثِيرُ تَصَوُّرِنَا عَنِ الْإِيمَانِ عَلَى وَاقِعِنَا
إِنَ تَصَوُّرَنَا السَّابِقَ عَنِ الْإِيمَانِ جَعَلَنَا حَرْفِيًّا نَكُونُ نُسْخَةً طِبْقَ الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَقُولُ بِالضَّبْطِ مَا قَالُوا :
﴿وَقالوا لَن تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا مَعدودَةً قُل أَتَّخَذتُم عِندَ اللَّهِ عَهدًا فَلَن يُخلِفَ اللَّهُ عَهدَهُ أَم تَقولونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾
[البقرة: ٨٠]
فَنَحْنُ مَا دُمْنَا نُثْبِتُ الْإِسْلَامَ لِلْعَاصِي الْمُصِرِّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، هَذَا يَعْنِي أَنَّنَا نَقُولُ لَهُ أَنَّهُ سَوْفَ يَدْخُلُ النَّارَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا بِالضَّبْطِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
هَذِهِ الْعَقِيدَةُ الْمُشَوَّهَةُ الَّتِي تُصَوِّرُ لِعُبَّادِ الْهَوَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، أَنْتَجَتْ جِيلًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا﴾
[مريم: ٥٩]
فَصِرْتَ تَجِدُ الْوَاحِدَ يَقُولُ لَكَ أَنَا مُسْلِمٌ، وَلَكِنِّي لَا أُصَلِّي، وَأَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، وَمَصِيرِي الْجَنَّةَ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَقَدْ لَا أُعَذَّبُ فَيُغْفَرُ لِي مِنْ خِلَالِ الشَّفَاعَةِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَزِّلْ الْآيَةَ السَّابِقَةَ، أَوْ كَأَنَّ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَعَلَى قُلُوبِنَا غُلْفٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
إِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ الْفَاسِدَةَ هِيَ أَخْطَرُ مَا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْأُمَّةُ، لِأَنَّهَا حَرَّفَتِ الدِّينَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، مِمَّا تَسَبَّبَ فِي الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّتِي نَتَخَبَّطُ فِيهَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْخَاتِمَةُ
إِذَا قَرَأْتَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ :
﴿فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا﴾
[مريم: ٥٩]
ثُمَّ وَاصَلْتَ الْقِرَاءَةَ، فَإِنَّكَ سَوْفَ تَجِدُ الْبِشَارَةَ :
﴿إِلّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمونَ شَيئًاجَنّاتِ عَدنٍ الَّتي وَعَدَ الرَّحمنُ عِبادَهُ بِالغَيبِ إِنَّهُ كانَ وَعدُهُ مَأتِيًّالا يَسمَعونَ فيها لَغوًا إِلّا سَلامًا وَلَهُم رِزقُهُم فيها بُكرَةً وَعَشِيًّاتِلكَ الجَنَّةُ الَّتي نورِثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا﴾
[مريم: ٦٠-٦٣]
لِذَلِكَ عَلَيَّ أَنَا وَأَنْتَ أَنْ نُبَادِرَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَنَعْلَمَ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الهَيِّنِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَنْفَعَنَا الْكَذِبُ عَلَى أَنْفُسِنَا بِمُعْتَقَدَاتٍ يُكَذِّبُهَا الْقُرْآنُ، فَرَبُّنَا قَالَ تَعْقِيبًا عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً :
﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَوَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
[الْبَقَرَةُ: ٨١-٨٢]
لِذَلِكَ وَجَبَ الْحَذَرُ مِنْ كَسْبِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنْ تُحِيطَ بِنَا قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ .
أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.