ماذا يعني الإيمان باليوم الآخر

منذ أيام طرحت سؤالا في موقع كورا عن ماذا يعني الإيمان باليوم الآخر عمليا، وكانت الأجوبة مفيدة جدا، فالإيمان باليوم الآخر يتجلى في كثير من الأعمال والمعتقدات التي نقوم بها في حياتنا، والتي من دونها لتحولت حياتنا إلى جحيم فاقد لأي معنى، وأي قيمة حقيقية، ولكن بالرغم من صحة تلك الأجوبة، إلا أنها لم تحوِ الإجابة القرآنية لسؤالي، والتي هي الإجابة الجامعة المانعة، والتي يجب أن تظهر جلية في واقعنا إذا كنا مؤمنين باليوم الآخر، لذلك أكتب هذه السطور لنتعرف عليها من خلال تدبر بعض الآيات التي تحدثنا عن ما تعنيه الآخرة بالنسبة للمؤمن، وذلك من خلال المحاور التالية

الإيمان باليوم الآخر ضرورة عقلية وشرعية 

يقول المنطق السليم أن هناك تناسب بين الحدث والسبب، فكلما كان الحدث كبيرا، كلما السبب وراءه كبيرا، بحيث يتناسب معه طرديا، هذا المبدأ نطبقه يوميا في حياتنا، فكل الأفعال التي نقوم بها، إنما نقوم بها مدفوعين بأسباب متناسبة معها.

فمثلا إذا أردنا القيام بعمل معين ولكن هذا العمل يتطلب جهدا كبيرا، إذا لم يكن الدافع للقيام به كبيرا مثله لن نقوم به، وسوف نتكاسل عنه.

إذ طبقنا هذا المبدأ على الكون، وهو أكبر شيء يمكننا تخيله، فإننا سوف نستنتج أنه يجب أن يكون هناك سبب عظيم وراء وجوده، ولا يمكن أن يكون خُلق عبثا، وهذا هو الفارق بين العاقل وبين الذي لا يعقل، بين المؤمن والكافر، فالمؤمنون يؤمنون أن هذا الكون خُلق لغاية عظيمة جدا تتناسب معه، ولذلك هم مدركون لخطورة المسؤولية، كما يظهر جليا في قولهم: 

﴿إِنَّ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الأَلبابِ۝الَّذينَ يَذكُرونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلى جُنوبِهِم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ۝رَبَّنا إِنَّكَ مَن تُدخِلِ النّارَ فَقَد أَخزَيتَهُ وَما لِلظّالِمينَ مِن أَنصارٍ﴾ 

[آل عمران: ١٩٠-١٩٢]

أما الكافر، فهو لا يعقل ولا يتأثر، ولذلك يتصور أن كل هذا الكون خُلق باطلا عبثا كما يظهر جليا من حياتهم، وكما أخبرنا ربنا عز وجل عنهم: 

﴿وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفَروا فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَروا مِنَ النّارِ﴾ 

[ص: ٢٧]

إن الهدف وراء خلق هذا الكون يخبرنا به رب العالمين الذي خلق الكون بأنه الحق المطلق بما تعنيه الكلمة من معاني عظيمة، مثل إحقاق الحق والعدل والقسط، وذلك في قوله: 

﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزى كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ 

[الجاثية: ٢٢]

فالكون خُلق إذن بالحق، ولإقامة الحق، وهذا يقتضي أن أعمالنا كلها سوف توزن على ميزان الحق، فمن أحسن يُحسن إليه، ومن ظلم فسوف يقتص منه للمظلوم، وكل هذا إنما سوف يتم في يوم ينتهي فيه الخيار لابن آدم، وينقاد الجميع لله سبحانه وهو يوم الدين: 

﴿إِنَّ الأَبرارَ لَفي نَعيمٍ۝وَإِنَّ الفُجّارَ لَفي جَحيمٍ۝يَصلَونَها يَومَ الدّينِ۝وَما هُم عَنها بِغائِبينَ۝وَما أَدراكَ ما يَومُ الدّينِ۝ثُمَّ ما أَدراكَ ما يَومُ الدّينِ۝يَومَ لا تَملِكُ نَفسٌ لِنَفسٍ شَيئًا وَالأَمرُ يَومَئِذٍ لِلَّهِ﴾ 

[الانفطار: ١٣-١٩]

ولذلك اليوم الآخر ضرورة منطقية لإحقاق العدل وجزاء كل نفس بما كسبت بالعدل، وهذا ما أخبر به ربنا عز وجل في مواضع كثيرة منها: 

﴿إِذا زُلزِلَتِ الأَرضُ زِلزالَها۝وَأَخرَجَتِ الأَرضُ أَثقالَها۝وَقالَ الإِنسانُ ما لَها۝يَومَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخبارَها۝بِأَنَّ رَبَّكَ أَوحى لَها۝يَومَئِذٍ يَصدُرُ النّاسُ أَشتاتًا لِيُرَوا أَعمالَهُم۝فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ۝وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ 

[الزلزلة: ١-٨]

ماذا يتضمن الإيمان باليوم الآخر 

يتضمن الإيمان باليوم الآخر مجموعة من العقائد المشكلة له، وفيما يلي ذكر أبرزها: 

  1. الإيمان بالمسؤولية عن الأعمال، وأن الحياة على هذا الأرض ليست حياة عبثية بلا غاية، فهذا أول شيء يجب اعتقاده، والذي بدوره سوف ينعكس في محاولة النجاة من العذاب ونيل مرضات الله، وذلك من خلال البحث عن أوامر الله جل جلاله وطاعتها، ولذلك نجد الإيمان باليوم الآخر يقرن بالإيمان بالله كما في قوله تعالى: 

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنازَعتُم في شَيءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلًا﴾ 

[النساء: ٥٩] ؛

  1. الإيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤال الملائكة للفرد بعد موته، ومن عذاب في القبر ونعيم فيه، فالروح ليست هي التي تموت وإنما تخرج من الجسد وبالتالي فإن من المنطقي جدا أن تبدأ في جني ثمار عملها في الدنيا بمجرد موتها ؛
  2. الإيمان بالبعث من الموت في أجساد مادية محسوسة ؛
  3. الإيمان بالحساب حيث يحاسب المرء على أعماله ؛
  4. الإيمان بالميزان الذي توزن عليه كل الأعمال، ومن رجحت كفته نجى، وإلا كان من أصحاب النار، كما قال ربنا عز وجل

﴿فَأَمّا مَن ثَقُلَت مَوازينُهُ۝فَهُوَ في عيشَةٍ راضِيَةٍ۝وَأَمّا مَن خَفَّت مَوازينُهُ۝فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ۝وَما أَدراكَ ما هِيَه۝نارٌ حامِيَةٌ﴾

[القارعة: ٦-١١] ؛

  1. الإيمان بالجنة ونعيمها المحسوس الذي دلت عليه آيات كثيرة، والنار وعذابها المحسوس أيضا ؛
  2. الصراط الذي هو ممر مضروب فوق النار لابد من المرور عليه للوصول إلى الجنة ؛
  3. الشفاعة التي يخرج بسببها بعد فضل الله من كان مؤمنا من النار ولم ينجه عمله، وهو بالطبع تائب لله فمن لم يتب في الدنيا خالد في النار كما سبق وشرحت بالتفصيل في بحث عن المعصية في الإسلام.

ماذا يعني الإيمان باليوم الآخر عمليا

قبل الإجابة على هذا السؤال دعني أذكرك بمسيرة أغلبنا في الحياة الدنيا لأنها سوف تفيدنا عندما نعرض الآيات التي تخبرنا بالجواب.

ماذا يعني الإيمان باليوم الآخر

نحن نولد وعندنا نمط من الحياة يتلخص في كوننا في فترة طفولتنا وشبابنا نقوم بالتحضير لمستقبلنا الدنيوي، فندخل المدرسة الإبتدائية ونستمر فيها ستة سنوات من الدراسة المتعبة، وبعدها الإعدادية ثم الثانوية ثم الجامعة يعني قرابة ستة عشر سنة من الدراسة المتواصلة على الأقل، ثم بعدها البحث عن عمل، وبعد للحصول عليه نعمل بجد لنكون أسرة ونستقر بحدود الاربعين سنة.

الدافع وراء كل هذا الجهد هو الرغبة في تأمين المستقبل والذي يمكن أن نطلق عليه حياتنا بعد بلوغ الأربعين، والتي قد نصلها، وقد لا نصلها، ثم إن حياتنا الفعلية التي نستمتع بها بعد الأربعين من النادر أن تتجاوز ثلاثين سنة، أي أننا بالمحصلة استثمرنا أربعين سنة من عمرنا لننعم بثلاثين سنة مع احتمال أن لا نصلها أبدا.

ما سبق هو نموذج حياة مَن يؤمن بالدنيا، لا يعتقد بوجود حياة بعدها لذلك في حساباته يسترخص الستة عشر سنة التي يقضيها في الدراسة في سبيل تحقيق الاستقرار في خمسين أو ستين سنة الباقية من عمره، والسبب أنه آمن بالمستقبل.

إذا كان ما سبق هو حال الكافر الذي يؤمن فقط بالدنيا، فكيف يجب أن يكون الحال بالنسبة للمؤمن الذي يؤمن بالحياة الأبدية التي لا تنقطع أبدا ؟

لا شك أنه سوف يجد أن العمل بجد لمدة مائة عام مقابل أن يضمن مستقبله اللانهائي أمرا رخيصا جدا ولا يساوي شيئا، لأن المائة عام لا تساوي شيئا فعليا أمام اللا نهاية أليس كذلك؟

طيب إذا قام شخص وقرر أن يعمل لأجل المائة عام فقط، ولا يضع في حسبانه الحياة اللا نهائية، هذا يعني أن هذا الشخص إما أنه لا يؤمن بأن هناك حياة لا نهائية، أو أنه مجنون ولا عقل له، أليس كذلك؟ 

إذا فهمنا ما سبق سوف نفهم أن قول الحق سبحانه: 

﴿مَن كانَ يُريدُ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمالَهُم فيها وَهُم فيها لا يُبخَسونَ۝أُولئِكَ الَّذينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وَباطِلٌ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ 

[هود: ١٥-١٦]

في قمة العدل، فالذي يريد الدنيا في واقع الأمر كافر بالآخرة، ولو كان يزعم أنه مؤمن بها، ولذلك فإن مصيره هو النار الأبدية، والعياذ بالله.

نفس المعنى يظهر في قوله تعالى: 

﴿مَن كانَ يُريدُ العاجِلَةَ عَجَّلنا لَهُ فيها ما نَشاءُ لِمَن نُريدُ ثُمَّ جَعَلنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاها مَذمومًا مَدحورًا﴾ 

[الإسراء: ١٨]

وفي المقابل من آمن بالآخرة أي أرادها فإن الله لن يضيع عمله: 

﴿وَمَن أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعيَها وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعيُهُم مَشكورًا﴾ 

[الإسراء: ١٩]

إذن نستنتج أن الإيمان بالآخرة يعني عمليا إرادة الآخرة واحتقار الدنيا والإعراض عنها.

ولا يمكن الجمع بين إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، لأن في ذلك تعطيل لمبدأ الجزاء مقابل العمل، فلا يعقل أن شخصا ما يريد أن يكون مهندسا وفي نفس الوقت يريد أن يستمتع بطفولته وشبابه ولا يرهق نفسه بالدراسة، فكذلك لا يمكن الفوز في الآخرة بدون العمل في الدنيا، ولذلك لم يطرح الله  خيار الجمع بين الدارين على أمهات المؤمنين في قوله: 

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها فَتَعالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَراحًا جَميلًا۝وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَالدّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلمُحسِناتِ مِنكُنَّ أَجرًا عَظيمًا﴾ 

[الأحزاب: ٢٨-٢٩]

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر:

أما ترضى  أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة

البخاري، صحيح البخاري، ط السلطانية ٤/١٨٦٦

ولم يضع له احتمال الجمع بين الدارين في الإرادة.

نعم قد يعطي الله للمؤمن المال الوفير والكثير من متاع الحياة الدنيا، فهذا فضل الله ورزقه، ولكن هذا لا يتعارض مع كون المؤمن همه الآخرة وليس الدنيا، ويكفيه من الدنيا ما يبلغه المحل، فهي ليست بدار القرار، وهذا ما أكد عليه القرآن مرارا في آيات كثيرة منها قوله تعالى: 

﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقونَ أَفَلا تَعقِلونَ﴾ 

[الأنعام: ٣٢]

ثمرات الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان التي لا يصح الإيمان إلا بها ولذلك من ثمراته مرضات الله عز وجل ومن ثم دخول الجنة في الآخرة، هذا في الآخرة، أما في الدنيا فيمكن تلخيص كل ثمرات الإيمان باليوم الآخر في تزكية النفس تزكية مطلقة بحيث تتحلى بجميع الخصال الحسنة، وتتخلص من جميع الخصال السيئة.

والسبب في ذلك أن جميع الخصال السيئة إنما سببها التعلق بالدنيا وعدم الإيمان بيوم القيامة، فالحسد والكذب والنفاق والكبر وغيرها كلها تنتج طمعا في الدنيا وغفلة عن يوم القيامة، بينما من آمن حقا باليوم الآخر فإنه سوف يصدق ويصبر ويتواضع ويتصدق وغير ذاك من الخصال الحسنة، لأنها هي التي سوف تنجيه يوم القيامة.

وعليه فإن ثمرة الإيمان باليوم الآخر هي تزكية النفس وتهذيبها.

تحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-