إِنْ لَمْ نَكُ مُسْلِمِينَ حَقًّا، فَإِنَّ قَوْلَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ:
﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا بِآياتِنا سَوفَ نُصليهِم نارًا كُلَّما نَضِجَت جُلودُهُم بَدَّلناهُم جُلودًا غَيرَها لِيَذوقُوا العَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزيزًا حَكيمًا﴾
[النساء: ٥٦]
يُخْبِرُ عَنِّي وَعَنْكَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ نَكُونُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي حَقِيقَةِ أَمْرِنَا، وَنَحْنُ نَحْسِبُ أَنَّنَا مُسْلِمينَ فِعْلًا، فَنَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الشَّدِيدِ، وَبَدَلَ أَنْ نَدْخُلَ الْجَنَّةَ، إِذَا بِنَا نُقْذَفُ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ
نَعَمْ هَذَا مُمْكِنٌ جِدًّا، خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، لِذَلِكَ دَعْنَا نُصَارِحُ أَنْفُسَنَا، وَنَصْدُقُ مَعَ اللَّهِ، فَمَا فَائِدَةُ أَنْ أُصِرَّ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، فِي حِينِ أَنَّنِي بِإِمْكَانِي مُرَاجَعَتَهُ الْآنَ، مُرَاجَعَةً حَقِيقِيَّةً، وَتَدَارُكَ نَفْسِي قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ، فَعِنْدَمَا أَمُوتُ، لَا فُرْصَةَ أُخْرَى، وَلَا فِدْيَةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ:
﴿يُبَصَّرونَهُم يَوَدُّ المُجرِمُ لَو يَفتَدي مِن عَذابِ يَومِئِذٍ بِبَنيهِوَصاحِبَتِهِ وَأَخيهِوَفَصيلَتِهِ الَّتي تُؤويهِوَمَن فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ يُنجيهِكَلّا إِنَّها لَظىنَزّاعَةً لِلشَّوىتَدعو مَن أَدبَرَ وَتَوَلّىوَجَمَعَ فَأَوعى﴾
[المعارج: ١١-١٨]
فَكِّرْ جَيِّدًا فِي الْأَمْرِ، فَمَا لَمْ تُقَرِّرْ أَنَّكَ فِعْلًا تُرِيدُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِأَيِّ ثَمَنٍ مَهْمَا كَانَ، فَلَا فَائِدَةَ لَكَ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، لِأَنَّنِي فِي هَذَا الْبَحْثِ أُخَاطِبُ الصَّادِقِينَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَرَادُوا النَّجَاةَ مَهْمَا كَلَّفَتْهُمْ، فَعَذَابُ اللَّهِ شَدِيدٌ، يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي وَصْفِهِ :
﴿وَتَرَى المُجرِمينَ يَومَئِذٍ مُقَرَّنينَ فِي الأَصفادِسَرابيلُهُم مِن قَطِرانٍ وَتَغشى وُجوهَهُمُ النّارُلِيَجزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفسٍ ما كَسَبَت إِنَّ اللَّهَ سَريعُ الحِسابِهذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنذَروا بِهِ وَلِيَعلَموا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلبابِ﴾
[إبراهيم: ٤٩-٥٢]
لِذَلِكَ نَهْدِفُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْبَحْثِ إِلَى تَحْقِيقِ الْإِسْلَامِ عَمَلِيًّا، بِحَيْثُ نَكُونُ مُسْلِمِينَ حَقًّا، فَنَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِرَحْمَتِهِ، وَكَرَمِهِ، وُجُودِهِ.
هَذَا الْبَحْثُ هَدَفُهُ الْعَمَلُ، وَلَيْسَ تَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ النَّظَرِيَّةِ، لِذَلِكَ لَا يَكُنْ هَمُّكَ مُجَرَّدَ قِرَاءَتِهِ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ بِخُطُوَاتِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْوَةً خُطْوَةً، حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكونَ مُسْلِمًا حَقًا، لِذَلِكَ تَوَقَّفْ عِنْدَ كُلِّ خُطْوَةٍ، وَاعْطِهَا مِنْ الْجُهْدِ وَالْوَقْتِ مَا تَسْتَحِقُّ، وَلَوْ كَلَّفَكَ ذَلِكَ أَيَّامًا وَشُهُورًا، فَنَحْنُ حَرْفِيًّا سَوْفَ نُبْعَثُ مِنْ الْمَوْتِ حِينَمَا نَسْلُكُ طَرِيقَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾
[الأنعام: ١٢٢]
وَهَذَا الْبَعْثُ فِي الْغَالِبِ يَحْتَاجُ مُدَّةً مِنْ الزَّمَنِ، تَتَفَاوَتُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ.
قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَرَفْتَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً، وَلِذَلِكَ أَنْصَحُكَ بِمُرَاجَعَةِ بَحْثِ تَعْرِيفِ الْعِبَادَةِ نَظَرِيًّا وَعَمَلِيًّا، قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الْبَحْثِ، وَبِسْمِ اللَّهِ نَعْرِضُ خُطُوَاتِ تَحْقِيقِ الْإِسْلَامِ عَمَلِيًّا
- الْخُطُوةُ الأُولَى: تَحْرِيرُ النَّفْسِ
- الْخُطُوةُ الثَّانِيَّةُ: الْبَحْثُ عَنْ الْحَقِّ
- الْخُطُوةُ الثَّالِثَةُ: تَسْلِيمُ النَّفْسِ وإعلان الإسلام
- مُلْحَقٌ حَوْلَ تَجْرِبَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَبَقَ وَذَكَرْتُ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَعْنِي الْخُضُوعَ وَالتَّذَلُّلَ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ تَعْنِي الْخُضُوعَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَا نُطِيعُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَهَذَا يَعْنِي عَمَلِيًّا التَّمَرُّدَ عَلَى جَمِيعِ السُّلُطَاتِ الَّتِي يُخْضَعُ لَهَا، فَيَكُونُ بِذَلِكَ تَحْرِيرُ النَّفْسِ هُوَ الْخُطْوَةُ الْأُولَى لِتَحْقِيقِ الْإِسْلَامِ عَمَلِيًّا، وَهَذَا هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ شَهَادَةِ التَّوْحِيدِ " لَا إِلَهَ" حَيْثُ يَكْفُرُ الْمَرْءُ بِكُلِّ إِلَهٍ يُخْضَعُ لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْخُطْوَةِ، الْبَحْثُ عَنِ الْإِلَهِ الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَأْتِي الْخُطْوَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ أن يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الشِّقُّ الثَّانِي مِنْ الشَّهَادَةِ "إِلَّا اللَّهَ".
إِنَّ قَوْلَ مَا سَبَقَ سَهْلٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ تَطْبِيقَهُ يَحْتَاجُ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ أَوَلاً، وَصِدْقًا وَإِخْلَاصًا، فَهُوَ صَعْبٌ جِدًّا بِالْمَقَايِيسِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّنَا فِي الْغَالِبِ لَا نَشْعُرُ بِالسُّلُطَاتِ الَّتِي نَخْضَعُ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، نَظَرًا لِكَوْنِنَا اعْتَدْنَا عَلَيْهَا مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِنَا، فَصَارَ الْخُضُوعُ لَهَا بِالنِّسْبَةِ لَنَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ دَلِيلًا لِبَدَاهَتِهِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ أَتَى مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا:
﴿وَعَجِبوا أَن جاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقالَ الكافِرونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌأَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌوَانطَلَقَ المَلَأُ مِنهُم أَنِ امشوا وَاصبِروا عَلى آلِهَتِكُم إِنَّ هذا لَشَيءٌ يُرادُما سَمِعنا بِهذا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِن هذا إِلَّا اختِلاقٌأَأُنزِلَ عَلَيهِ الذِّكرُ مِن بَينِنا بَل هُم في شَكٍّ مِن ذِكري بَل لَمّا يَذوقوا عَذابِ﴾
[ص: ٤-٨]
وَلِذَلِكَ قَضِيَّةُ تَطْبيقُ الْإِسْلَامِ عَمَلِياً قَضِيَّةٌ صَعْبَةٌ جِدًّا عَلَى بَنِي آدَمَ، وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَةٍ يَقُولُهَا الْمَرْءُ وَيَنْتَهِي الْأَمْرُ، بَلْ هِيَ بَعْثٌ مِنْ الْمَوْتِ، وَتَمَرُّدٌ، وَثَوْرَةٌ صَادِقَةٍ، لَا يُوَفَّقُ لَهَا سِوَى الصَّادِقُونَ مَعَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُمْ.
وَفِيمَا يَلِي نَتَعَلَّمُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ نَقُومُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
الْخُطُواتُ الْأولَى: تَحْرِيرُ النَّفْسِ
اقْرَأْ مَعِي بِتَأَمُّلٍ قَوْلَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ لِأَبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصنامًا آلِهَةً إِنّي أَراكَ وَقَومَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾
[الأنعام: ٧٤]
كَرِّرْ قِرَاءَةَ الْآيَةِ، وَتَفَكَّرْ فِيهَا، مَرَّةً وَاثْنَتَيْنِ
اكْتُبْ الْآيَةَ فِي وَرَقَةٍ عِنْدَكَ ، وَاقْرَأْهَا مَرَّةً أُخْرَى
مَاذَا فَهِمْتَ مِنْ الْآيَةِ؟
لَا تَكْتَفِي بِالْإِجَابَةِ الشَّفَوِيَّةِ، اُكْتُبْ مَا فَهِمْتَ فِي وَرَقَتِكَ، فَهَذَا سَوْفَ يُسَاعِدُكَ فِي اسْتِخْلَاصِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مِنَ الْآيَةِ.
جَيِّدٌ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ.
إِذَنْ فِي الْآيَةِ يُخْبِرُنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اعْتِرَاضِ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتِنْكَارِهِ عَلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ اتِّخَاذَ أَصْنَامٍ آلِهَةً:
أَتَتَّخِذُ أَصنامًا آلِهَةً
وَتَسْفِيهِهِ لِهَذَا الْعَمَلِ :
إِنّي أَراكَ وَقَومَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ
آلِهَةٌ جَمْعُ إِلَهٍ، وَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، أَيِ الَّذِي نَخْضَعُ لَهُ
[أله] أَلهَ بالفتح إِلاهَةً، أي عبد عبادة. ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (ويذرك وإلاهتك) بكسر الهمزة. قال. وعبادتك
[الجوهري، أبو نصر، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، ٢٢٢٣/٦]
وَهُوَ مَنْ نَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَنَتَقَوَّى بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَاتَّخَذوا مِن دونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكونوا لَهُم عِزًّا﴾
[مريم: ٨١]
إِذَنْ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِيبُ عَلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ اتِّخَاذَ أَصْنَامٍ آلِهَةً، فَالصَّنَمُ هُوَ مَا اتُّخِذَ مِنْ خَشَبٍ وَحِجَارَةٍ فَيُعْبَدُ:
(صَنَمَ) الصَّادُ وَالنُّونُ وَالْمِيمُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا فَرْعَ لَهَا، وَهِيَ الصَّنَمُ. وَكَانَ شَيْئًا يُتَّخَذُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ فَيُعْبَدُ.
[ابن فارس، مقاييس اللغة، ٣١٤/٣]
لِأَنَّهَا فِي الْوَاقِعِ لَا تَمْلِكُ نَفْعًا فَنَرْجُوهُ مِنْهَا، وَلَا تَمْلِكُ ضَرًّا فَنَخَافُهَا بِسَبَبِهِ، لِذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ الصَّرِيحِ عِبَادَتُهَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ ؟
طَيبٌ، سُؤَالٌ:
مَا دَامَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ أَمْراً سَخِيفاً بَاطِلاً، يُدْرِكُ الْغَبِيُّ بُطْلَانَهُ، لِمَاذَا لَمْ يَكْتَشِفْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ أَحَدٌ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ ؟
وَلِمَاذَا لَمَّا اكْتَشَفَهَا وَأَعْلَنَهَا لِلنَّاسِ لَمْ يَتْبَعُوهُ ؟
فَكِّرْ فِي إِجَابَةِ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مِفْتَاحُ الطَّرِيقِ نَحْوَ تَحْرِيرِ النَّفْسِ، وَخُذْ وَقْتَكَ، لَا تَسْتَعْجِلْ فَكُلَّمَا أَطَلْتَ التَّفْكِيرَ، كُلَّمَا كَانَ أَحْسَنَ.
أَهَمِيَّةُ التُّرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرْدِ
بِالنِّسْبَةِ لِلسُّؤَالِ الْأَوَّلِ : لِمَاذَا فَقَطْ إِبْرَاهِيمُ هُوَ وَحْدَهُ مَنْ اكْتَشَفَ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بَاطِلَةٌ رَغْمَ بَدَاهَتِهَا ؟
فَالْجَوَابُ يَكْمُنُ فِي أَنَّهُ وَحْدَهُ مَنْ قَرَّرَ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْ التُّرَاثِ، فَيَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ عَلَى مِيزَانِ الْعَقْلِ، لِيَتَّخِذَ مِنْهُ مَوْقِفًا، أَمَّا غَيْرُهُ فَظَلَّ يُقَلِّدُ مُجْتَمَعَهُ، وَلَمْ يَسْمَحْ لِنَفْسِهِ بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ مُجْتَمَعِهِ، لِذَلِكَ لَمْ يَرَ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ رَغْمَ بَدَاهَتِهَا.
لِنَرَى نَمُوذَجًا مِنْ تَغْيِيبِ التُّرَاثِ لِلْعَقْلِ، اُنْظُرْ إِلَى النَّصَارَى، فَالْعَقِيدَةُ النَّصْرَانِيَّةُ تَقُومُ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ ثَلَاثَةٌ، الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ، وَهَذَا لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ فَثَلَاثَةٌ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَنَا أُمَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا فِيهَا مِلْيَارَاتُ الْبَشَرِ كُلُّهَا تُسَلِّمُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ السَّخِيفَةِ، وَلَا تَرَى أَنَّهَا سَخِيفَةٌ أَصْلًا
هَلْ لِكَوْنِهِمْ كُلُّهُمْ أَغْبِيَاءَ ؟
لَا، فَفِيهِمْ الْمُفَكِّرُونَ وَالْمُهَنْدِسُونَ وَالتُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ عُقُولٌ، وَلَكِنَّ مُشْكِلَتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ مَحَلَّ النَّقْدِ يَوْمًا، فَقَطْ ابْتَلَعُوهَا ابْتِلَاعًا، فَهِيَ عِنْدَهُمْ خَارِجَ نِطَاقِ التَّفْكِيرِ وَالنَّقْدِ.
يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي وَصْفِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ:
﴿أَذلِكَ خَيرٌ نُزُلًا أَم شَجَرَةُ الزَّقّومِإِنّا جَعَلناها فِتنَةً لِلظّالِمينَإِنَّها شَجَرَةٌ تَخرُجُ في أَصلِ الجَحيمِطَلعُها كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطينِفَإِنَّهُم لَآكِلونَ مِنها فَمالِئونَ مِنهَا البُطونَثُمَّ إِنَّ لَهُم عَلَيها لَشَوبًا مِن حَميمٍثُمَّ إِنَّ مَرجِعَهُم لَإِلَى الجَحيمِ﴾
[الصافات: ٦٢-٦٨]
يَالَهُ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، حَيْثُ يَمْلَأُ الْإِنْسَانُ بَطْنَهُ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْ الْحَمِيمِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى الْجَحِيمِ، لِمَاذَا كُلُّ هَذَا الْعَذَابِ؟
مَا هُوَ الْجُرْمُ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ ؟
يَأْتِي الْجَوَابُ :
﴿إِنَّهُم أَلفَوا آباءَهُم ضالّينَفَهُم عَلى آثارِهِم يُهرَعونَ﴾
[الصافات: ٦٩-٧٠]
إِنَّهُ تَقْلِيدُ التُّرَاثِ تَقْلِيدًا أَعْمَى، صَاحِبُهُ لَا يُفَكِّرُ وَلَا يَنْقُدُ، فَقَطْ يَتْبَعُ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْقُرْآنُ أَبْلَغَ تَعْبِيرٍ، فَهُمْ قَدْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ بَدَلَ أَنْ يَنْتَقِدُوا تُرَاثَهُمْ، يَجْعَلُهُمْ الْمُجْتَمَعُ يُسَارِعُونَ فِي اتِّبَاعِ قَوْمِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ الْوَقْتَ حَتَّى لِتَبَيُّنِ مَعَالِمِ هَذَا الطَّرِيقِ، وَمِنْ هُنَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، حَيْثُ يَمْلَأُونَ بُطُونَهُمْ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ بِسُرْعَةٍ كَمَا مَلَأُوا قُلُوبَهُمْ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ فَاسِدَةٍ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ وَصْفِ طَرِيقَتِهِمْ لِشُرْبِ الْحَمِيمِ، بِأَنَّهُ شُرْبَ الْإِبِلِ الْهَائِمَةِ الْعَطْشَانَةِ لِلْمَاءِ :
﴿فَشارِبونَ عَلَيهِ مِنَ الحَميمِفَشارِبونَ شُربَ الهيمِ﴾
[الواقعة: ٥٤-٥٥]
إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ تَنْطَبِقُ عَلَيَّ أَنَا، وَعَلَيْكَ أَنْتَ، بَلْ إِنَّهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَيَّ أَنَا، وَعَلَيْكَ أَنْتَ، إِذَا بَقِينَا نُقَلِّدُ مُجْتَمَعَنَا دُونَ تَفْكِيرٍ، فَنَحْنُ قَدْ عَلِمْنَا سَابِقًا أَنَّ مَا تَدِينُ بِهِ أُمَّتُنَا لَيْسَ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عَامٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ لَمَا سَلَبَهَا اللَّهُ النَّصْرَ وَالتَّمْكِينَ كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنْتُ فِي مَقَالِ أَسْبَابِ تَخَلُّفِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
لِذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ تَنْطَبِقُ عَلَيْنَا تَمَامًا إِذَا بَقِينَا نُقَلِّدُ تُرَاثَنَا دُونَ تَفْكِيرٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَابُدَّ لَنَا مِنْ طَرْحِ تُرَاثِنَا كُلِّهِ عَلَى النَّقْدِ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ أَشْيَاءٌ سَخِيفَةٌ كَمَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الَّتِي عِنْدَ النَّصَارَى، وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ ؟
لَا يَجِبُ أَنْ تُوَاصِلَ الْقِرَاءَةَ حَتَّى تَحْسِمَ أَمْرَكَ، هَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّجَرُّدِ مِنَ التُّرَاثِ وَطَرْحِهِ لِلنَّقْدِ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ لَا ؟
قَبْلَ أَنْ نَبْدَأَ نَقْدَ التُّرَاثِ بَقِيَ لَنَا سُؤَالٌ مُهِمٌّ جِدًّا يَجِبُ أَنْ نَجِدَ الْجَوَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ :
لِمَاذَا لَمَّا اكْتَشَفَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَعْلَنَهَا لِلنَّاسِ، لَمْ تَتْبَعْهُ النَّاسُ، بَلْ حَارَبُوهُ؟
لِأَنَّهُ عِنْدَ نَقْدِنَا لِلتُّرَاثِ قَدْ نَكْتَشِفُ مَسَائِلَ بَاطِلَةً، وَلَكِنَّنَا نَظَلُّ مُتَمَسِّكِينَ بِهَا رَغْمَ بُطْلَانِهَا، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ سَبَبَ تَمَسُّكِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ رَغْمَ كَوْنِهِم يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ .
فِي الْوَاقِعِ لِكَيْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نُجِيبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ نَحْتَاجُ أَنْ نَفْهَمَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْفَرْدِ وَتُرَاثِهِ مِنْ النَّاحِيَةِ النَّفْسِيَّةِ، تِلْكَ الْعَلَاقَةُ الْعَمِيقَةُ جِدًّا، وَالَّتِي يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ أَنَّهَا عَلَاقَةُ مُنْتِجٍ بِمُنْتَجٍ، فَالْفَرْدُ نِتَاجُ الْمُجْتَمَعِ، فَاسْمُهُ، وَثَقَافَتُهُ، وَنَظْرَتُهُ، وَنَمَطُ تَفْكِيرِهِ، وَحَتَّى ذَوْقُهُ، كُلُّ ذَلِكَ، فَرَضَهُ عَلَيهِ الْمُجْتَمَعُ بِصِفَةٍ لَا شُعُورِيَّةٍ.
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمُجْتَمَعَ يُمَثِّلُ الْأَصْلَ وَالْجُذُورَ لِلْفَرْدِ، يُمَثِّلُ الْهَوِيَّةَ وَالْمَرْجِعِيَّةَ، وَلِذَلِكَ التَّخَلِّي عَنْ قِيَّمِهِ، وَدِينِهِ وَلَوْ كَانَ بَاطِلاً، يُمَثِّلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرْدِ بَتْرًا مِنْ جُذُورِهِ، وَمِنْ ثَمَّ ضَيَاعٌ وَتَشَتُّتٌ، وَهَذَا مَا يَدْفَعُهُ لِلتَّمَسُّكِ بِمُعْتَقَدَاتِ الْمُجْتَمَعِ، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ.
أَيْضًا يُمَارِسُ الْمُجْتَمَعُ عَلَى مَنْ يَتَمَرَّدُ عَلَيْهِ عُقُوبَاتٍ مَعْنَوِيَّةً، تَبْدَأُ مِنْ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ الشَّتْمِ وَالسَّبِّ، ثُمَّ النَّبْذِ، وَقَدْ تَصِلُ أَحْيَانًا إِلَى التَّعْذِيبِ الْجَسَدِيِّ، وَلِلْقَتْلِ، لِذَلِكَ يُحْجِمُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفُوهُ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي قَدْ يَتَعَرَّضُونَ لَهَا مِنْ الْمُجْتَمَعِ.
لِذَلِكَ لِكَيْ لَا نَقَعَ فِي هَذَا التَّحَيُّزِ لِلْمُجْتَمَعِ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَنْ نَكُونُ حَقًّا، بِمَعْنَى مَا هِيَ هَوِيَّتُنَا الْفِعْلِيَّةُ، وَمَاذا نُريدُ؟
وَالْجَوَابُ سَهْلٌ جِدًّا، إِنَّنَا عَبِيدُ اللَّهِ نَعِيشُ بِرِزْقِ اللَّهِ، وَعَلَى أَرْضِ اللَّهِ، وَتَحْتَ سَمَاءِ اللَّهِ، هَذِهِ هِيَ هَوِيَّتُنَا الْحَقِيقِيَّةُ، فَنَحْنُ مِلْكٌ للَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِينَا، وَمَنْ يَمْلِكْ لَنَا النَّفْعَ، وَالضَّرَّ، وَكُلَّ شَيْءٍ، لِذَلِكَ وَلَاؤُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.
أَمَّا الْمُجْتَمَعُ فَلَمْ يَخْلُقْنَا، وَلَمْ يَرْزُقْنَا، وَلَا يَمْلِكُ لَنَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَنْ يُنْجِيَنَا مِنْ النَّارِ، لِذَلِكَ يَجِبُ إِعَادَةُ تَعْرِيفِ أَنْفُسِنَا بِأَنَّنَا عَبِيدٌ لِلَّهِ، مُلْكٌ لِلَّهِ وَفَقَطْ، فَهَذِهِ هِيَ هَوِيَّتُنَا الْحَقِيقِيَّةُ الْعَادِلَةُ.
أَيُّهَا الْفَاضِلُ مَا سَبَقَ بَدِيهِي، فَأَنْتَ تَعْرِفُهُ، وَيُعْرِفُهُ كُلُّ النَّاسِ، لِذَلِكَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَوَقَّفَ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ النَّظَرِيَّةِ، وَنَنْتَقِلَ إِلَى التَّطْبِيقِ الْعَمَلِيِّ لَهُ.
أَيُّهَا الْفَاضِلُ كَوْنُكَ مُلْكٌ لِلَّهِ، وَتَعِيشُ عَلَى أَرْضِهِ، وَبِرِزْقِهِ، يُؤَدِّي أَنَّهُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْضَعَ لَهُ وَحْدَهُ خُضُوعًا مُطْلَقًا، فَأَنْتَ مُلْكُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ عَذَابَكَ عَظِيمٌ جِدًّا لِأَنَّكَ ظَالِمٌ لِنَفْسِكَ ظُلْمًا عَظِيمًا.
هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ حَيَاتِكَ لَيْسَ أَحْلَامَكَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَإِنَّمَا مَرْضَاتُ اللَّهِ حَتَّى تَسْلَمَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاَللَّهُ لَمْ يَخْلُقْكَ لِكَيْ تَتَزَوَّجَ، وَتَجْمَعَ الْمَالَ، وَتَقْضِيَ حَيَاتَكَ بَحْثًا عَنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا خَلَقَكَ لِتُطِيعَهُ وَحْدَه مَهما كَلَّفَتْكَ طَاعَتُهُ، وَلَوْ كَانَ حَيَاتَكَ نَفْسَهَا، فَأَنْتَ وَحَيَاتُكَ مُلْكُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ.
أَرْجُو أَنْ تُفَكِّرَ فِيمَا سَبَقَ تَفْكِيرًا عَمِيقًا جِدًّا، وَلَوْ أَخَذَ مِنْكَ أَيَّامًا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الِانْسِلَاخَ مِنْ إِرادَةِ الدُّنيا، وَالْوَلَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَإِرادَةِ الآخِرَةِ، قَدْ لَا يَكُونُ أَمْرًا سَهْلَ التَّطْبِيقِ فِي الْبِدَايَةِ، وَلَكِنْ حِينَ نَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى :
﴿لَن تُغنِيَ عَنهُم أَموالُهُم وَلا أَولادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيئًا أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾
[المجادلة: ١٧]
فَإِنَّ كُلَّ شَيٍّ يَهُونُ فِي سَبِيلِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُ.
قَبْلَ أَنْ نَبْدَأَ فِي فَحْصِ تُرَاثِنَا وَمَا نَدِينُ بِهِ، أُرِيدُكَ أَنْ تُفَكِّرَ أَنْتَ فِي دِينِ قَوْمِكَ، وَتَأْخُذَ وَقْتَكَ فِي التَّفْكِيرِ، وَتَكْتُبَ مَا تَوَصَّلْتَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ سَوْفَ يُسَاعِدُنَا جِدًّا فِي الْمِحْوَرِ التَّالِي
فَحْصُ التُّرَاثِ
بِسْمِ اللَّهِ نَبْدَأُ بِفَحْصِ مَا عِنْدَنَا مِنْ تُرَاثٍ، هَذَا الْفَحْصُ سَوْفَ يَكُونُ شَامِلًا بِحَيْثُ نُنَاقِشُ فِيهِ كُلَّ شَيٍّ مَعَ بَعْضِنَا بِإِذْنِ اللَّهِ، حَتَّى نَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا.
لَقَدْ نَشَأْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي مُجْتَمَعَاتٍ مُتَشَابِهَةٍ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، فَبِسَبَبِ تَأْثِيرِ الْعَوْلَمَةِ أَصْبَحَتْ جُلُّ الْمُجْتَمَعَاتِ تَتَشَارَكُ نَمَطَ الْعَيْشِ نَفْسَهُ، وَنَمَطَ الثَّقَافَةِ نَفْسَهُ، مَعَ مُرَاعَاةٍ لِخُصُوصِيَّةِ كُلِّ بَلَدٍ.
بَعْدَ بُلُوغِ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ تَمَّ تَسْلِيمُنَا لِحَدِيقَةِ الْأَطْفَالِ حَيْثُ كُنَّا نَقْضِي أَغْلَبَ وَقْتِنَا بَيْنَ اللَّعِبِ وَالرَّسْمِ وَالْغِنَاءِ.
خِلَالَ فَتْرَةِ الْحَدِيقَةِ يَتِمُّ غَرْسُ بَعْضِ الْمُعْتَقَدَاتِ الْخَطِيرَةِ فِي عُقُولِنَا اللَّاوَاعِيَّةِ وَالَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا:
حُبُّ الرَّسْمِ وَالْغِنَاءِ
بِاعْتِبَارِهِمَا فَنًّا جَمِيلًا، الْأَمْرُ الَّذِي يُهَيِّئُنَا فِيمَا بَعدُ لِنَكُونَ عَلَى الْأَقَلِّ مُعْجَبِينَ بِالْفَنَّانِينَ إِنْ لَمْ نَكُنْ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَعْنِي اتِّخَاذَهُمْ قُدْوَةً فِي أَخْلَاقِنَا وَنَمَطِ حَيَاتِنَا، وَلَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ عَوَاقِبُ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْدِ.
عَبَثِيَّةُ الْحَيَاةِ
حَيْثُ أَنَّهُ لَا أَنْشِطَةَ لَنَا سِوَى اللَّعِبِ، وَحَتَّى إِذَا أَرَدْنَا تَعَلُّمَ شَيْءٍ كَالْحُرُوفِ مَثَلًا، يَتِمُّ تَعَلُّمُهُ مِنْ خِلَالِ اللَّعِبِ، وَهَذَا هُوَ أَخْطَرُ مُعْتَقَدٍ يُمَرِّرُ لِعُقُولِنَا الْبَاطِنَةِ، لِأَنَّهُ هُوَ مُرْتَكِزُ الْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ:
﴿وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفَروا فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَروا مِنَ النّارِ﴾
[ص: ٢٧]
وَالْأَمْرُ الَّذِي سَوْفَ يُلَاحِقُنَا فِيمَا بَعْدُ، فَعِنْدَمَا نُخَطِّطُ لِمُسْتَقْبَلِنَا، فَإِنَّ كُلَّ تَرْكِيزِنَا عَلَى خِدْمَةِ هَوَانَا، فَلَيْسَ هُنَاكَ هَدَفٌ مُسْبَقٌ لِحَيَاتِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَخْتَارُ الْعَمَلَ الَّذِي يُحِبُّهُ بِهَوَاهُ.
مَثَلًا عِنْدَمَا تَسْأَلُ طِفْلا مَاذَا يرِيدُ أَنْ يُصْبِحَ عِنْدَمَا يَكْبُرُ، يَكُونُ الْجَوَابُ غَالِبًا مَبْنِيًّا عَلَى هَوَاهُ الشَّخْصِيِّ، فَمَثَلًا إِذَا قَالَ لَكَ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ طَيَّارًا، إِذَا سَأَلْتُهُ لِمَا تَرْغَبُ فِي أَنْ تَكُونَ طَيَّارًا سَوْفَ يَقُولُ لَكَ فَقَطْ لِأَنِّي أُحِبَُّ أَنْ أكُونَ طَيَّارًا.
ضَعْفُ الِارْتِبَاطِ بِالْأُسْرَةِ
يَقْضِي الطِّفْلُ خَمْسَ إِلَى سِتِّ سَاعَاتٍ فِي الْحَدِيقَةِ مَعَ الْأَطْفَالِ بَعِيدًا عَنْ الْأُسْرَةِ، وَعِنْدَمَا يَعُودُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتْعِبًا وَيَحْتَاجُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَإِذَا بَقِيَ مُسْتَيْقِظًا فَإِنَّ أَفْلَامَ الْكَرْتُونِ يَسْتَوْلُونَ عَلَى اهْتِمَامِهِ، كَذَلِكَ أَهْلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُودُ مُتْعَبًا مِنْ الْعَمَلِ وَضُغُوطِ الْحَيَاةِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَقْضِيهِ الطِّفْلُ مَعَ ذَوِيهِ يَكُونُ قَلِيلًا جِدًّا، الْأَمْرُ الَّذِي يَنْعَكِسُ عَلَى عَلَاقَتِهِ بِوَالِدَيْهِ، لِذَلِكَ يَضْعُفُ الِارْتِبَاطُ بِالْأُسْرَةِ، وَيَتَفَشَّى الْعُقُوقُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ.
الِانْتِمَاءُ لِلْوَطَنِ
مِنْ الرَّسَائِلِ الَّتِي يَبْدَأُ عَقْلُنَا الْبَاطِنُ فِي تَلَقِّيهَا وَنَحْنُ فِي الْحَدِيقَةِ الِانْتِمَاءُ لِلْوَطَنِ مِنْ خِلَالِ الْأَنَاشِيدِ، الْأَمْرُ الَّذِي يَجْعَلُ الْهُوِيَّةَ الْوَطَنِيَّةَ مُتَجَذِّرَةً فِي أَنْفُسِنَا، نَوَالِي وَنُعَادِي عَلَيْهَا، لَا نَعْرِفُ لَنَا هُوِيَّةً سِوَاهَا، لِأَنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ الطِّفْلَ أَنْ يَعْرِفَ لَكَ نَفْسَهُ سَوْفَ يَعْرِفُهُ بِبَلَدِهِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ تَعْرِيفُ سِوَاهُ.
تَتُرَسِّخُ الْمَفَاهِيمُ السَّابِقَةُ كُلَّمَا كَبِرْنَا فِي السِّنِّ، وَفِي الْمَدْرَسَةِ الْإِبْتِدَائِيَّةِ نَتَعَلَّمُ الدِّينَ تَعْلِيمًا عَلْمَانِيًّا لَا شُعُورِيًّا، فَالدِّيْنُ مَادَّةٌ مِثْلَ بَقِيَّةِ الْمَوَادِّ الَّتِي نَدْرُسُهَا، وَبِالتَّالِي هُوَ مُنْحَصِرٌ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنْ الشَّعَائِرِ الَّتِي نَدْرُسُهَا، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْحَيَاةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي نَدْرُسُهَا فِي مَادَّةِ التَّرْبِيَةِ الْمَدَنِيَّةِ.
هَذِهِ الْعَلْمَانِيَّةُ اللَّاشِعُورِيَّةُ مِنْ أَخْطَرِ مَا يُعَانِيهِ الْفَرْدُ الْيَوْمَ، لِأَنَّهُ غَالِبًا يَبْقَى عَلْمَانِيًّا حَتَّى حِينِ يُقَرِّرُ الْإِلْتِزَامَ بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ مُنْحَصِرٌ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشَّعَائِرِ، وَهُوَ عِنْدَمَا يَتَدَيَّنُ فَقَطْ يَبْدَأُ يُصَلِّي وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ بِذَلِكَ فِعْلَ كُلِّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ خَاطِئٌ طَبْعًا، فَالْإِسْلَامُ مَنْهَجُ حَيَاةٍ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنَاحِي الْحَيَاةِ كَمَا سَبَقَ وَرَأَيْنَا.
بَعْدَ هَذَا الْعَرْضِ الْمُوجِزِ لِمَا تَرَعْرَعْنَا عَلَيْهِ نَبْدَأُ بِفَحْصِهِ فَأَقُولُ لَقَدْ تَرَعْرَعْتُ أَنَا وَأَنْتَ عَلَى أَنَّنَا مُسْلِمِينَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا.
بِدَايَةً قَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِنَا سُؤَالٌ مَنْطِقِيٌّ جِدًّا، وَهُوَ لِمَاذَا الْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْحَقِّ، لِمَ لَا تَكُونُ النَّصْرَانِيَّةُ هِيَ دِينُ الْحَقِّ، أَوْ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ حَتَّى الْإِلْحَادُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ مُطْلَقًا ؟
هَذَا السُّؤَالُ سَوْفَ أُرْجِئُ الْإِجَابَةَ عَلَيْهِ حَتَّى الْمَقَالِ الْقَادِمِ، حَيْثُ سَوْفَ أُثْبِتُ عَقْلِيًّا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ، لِذَلِكَ سَوْفَ نَتَجَاوَزُهُ الْآنَ، وَنَفْتَرِضُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الصَّحِيحُ، وَإِذَا كُنْتَ تَقْرَأُ هَذَا الْبَحْثَ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنْ نَشْرِهِ، فَيُمْكِنُكَ مُرَاجَعَةُ مَقَالِ كَيْفَ تُثْبِتُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَتَرُدُّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، فَسَوْفَ تَجِدُ فِيهِ إِن شاءَ اللَّه الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.
انْزِعِ الْغِشَاوَةَ عَنْ بَصَرِكَ
لَقَدْ نَجَحَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ، فَقَدْ جَعَلَنَا نُقَدِّسُ الْقُرْآنَ تَقْدِيسًا شَيْطَانِيًّا، بِحَيْثُ لَا نَتَجَرَّأُ عَلَى التَّفْكِيرِ فِي مَعَانِيهِ، بِحُجَّةِ أَنَّنَا لَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهَذَا الْمُعْتَقَدُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَكَأَنَّنَا نَقُولُ لِلَّهِ مَا أُرْسَلْتَ إِلَيْنَا لَا يُنَاسِبُنَا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، وَبِمَا يُنَاسِبُهُمْ.
وَلَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ كَلَامَهُ وَيَسَّرَهُ لِيَفْهَمُوهُ، وَيُطَبِّقُوهُ، وَيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَا أَدْرَكَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتَعَامَلُوا مَعَهُ بِصِفَةٍ عَمَلِيَّةٍ كَمَا بَيَّنتْ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْمُعْتَقَدَاتِ الَّتِي تَرَبَّيْنَا عَلَيْهَا اعْتِبَارُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ غَايَةٌ فِي الصُّعُوبَةِ، يَسْتَحِيلُ فَهْمُهُ عَلَيْنَا، بِحُجَّةِ أَنَّهُ مُقَدَّسٌ جِدًّا، وَفَوْقَ مُسْتَوَانًا، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَقْرَأَهُ دُونَ تَدَبُّرٍ، لِأَنَّ التَّدَبُّرَ يَحْتَاجُ إِلَى فَهْمٍ قَبْلَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ نَفْتَقِدُهُ تَمَامًا.
كَذَلِكَ إِذَا أَرَدْنَا فَهْمَ آيَةٍ فَيَجِبُ أَنْ نَتَقَيَّدَ بِكَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ لَهَا، فَهُمْ وَحْدَهُمْ مَنْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ.
هَذَا التَّصَوُّرُ عَنِ الْوَحْيِ جَعَلَنَا حَرْفِيًّا نَتَخَبَّطُ فِي الظُّلُمَاتِ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ النُّورِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ سَيَقْبَعُ فِي الظُّلُمَاتِ، وَالْوَحْيُ هُوَ النُّورُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِّكُم وَأَنزَلنا إِلَيكُم نورًا مُبينًا﴾
[النساء: ١٧٤]
وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يُنِيرُ دَرْبَ الْمُؤْمِنِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾
[الأنعام: ١٢٢]
لَا تَقُلْ لِي أَنَا لَا أَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، لِأَنِّي سَوْفَ أَقُولُ لَكَ وَلِمَ لَا تَتَعَلَّمُهَا، وَلِمَاذَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْهَمَ كَلَامِي أَنَا الْمَكْتُوبُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا تَفْهَمُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ قَطْعًا أَبْيَنُ مِنْ كَلَامِي، وَأَيْسَرَ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مِنْ بَيَّنَهُ وَيَسَّرَهُ:
﴿الر تِلكَ آياتُ الكِتابِ المُبينِ﴾
[يوسف: ١]
﴿وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ﴾
[القمر: ١٧]
إِنَّ الْقَضِيَّةَ لَيْسَ قَضِيَّةَ جَهْلٍ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ إِعْرَاضٌ مُسْبَقٌ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَرِثْنَاهُ جِيلًا عَنْ جِيلٍ، وَلِذَلِكَ نَحْنُ لَا نُحَاوِلُ حَتَّى فَهمَهُ، وَكَأَنَّ اللَّهَ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِنَا، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِنَا غِشَاوَةً، وَفِي آذَانِنَا وَقَرٍ:
﴿وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ وَجَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤمِنوا بِها حَتّى إِذا جاءوكَ يُجادِلونَكَ يَقولُ الَّذينَ كَفَروا إِن هذا إِلّا أَساطيرُ الأَوَّلينَ﴾
[الأنعام: ٢٥]
لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ الْوَحْيَ قُرْآنًا وَسُنَّةٌ يَسِيرٌ مُبِينٌ فِعْلًا، وَتُحَطِّمَ هَذَا الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَتُحَاوِلُ أَنْ تَفْهَمَهُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي أُنْزَلَ بِهِ، وَتَتَدَبَّرَهُ، فَاَللَّهُ أَنْزَلَهُ لِكَيْ تَتَدَبَّرَهُ :
﴿كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلبابِ﴾
[ص: ٢٩]
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾
[محمد: ٢٤]
فَمَا لَمْ تُحَطِّمْ هَذِهِ الْأَقْفَالَ الَّتِي عَلَى قَلْبِكَ، وَتَنْزِعْ الْغِشَاوَةَ عَنْ بَصَرِكَ، وَالْوَقْرُ مِنْ آذَانِكَ، فَلَنْ تَهْتَدِيَ أَبَدًا:
﴿وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنها وَنَسِيَ ما قَدَّمَت يَداهُ إِنّا جَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدى فَلَن يَهتَدوا إِذًا أَبَدًا﴾
[الكهف: ٥٧]
وَكَيْفَ تَهْتَدِي وَأَنْتَ أَعْمَى لَا تَرَى نُورَ اللَّهِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ النَّاسُ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ:
﴿الر كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ بِإِذنِ رَبِّهِم إِلى صِراطِ العَزيزِ الحَميدِ﴾
[إبراهيم: ١]
الْإِيمَانُ بِبَيَانِ الْوَحْيِ، وَيُسْرِهِ، هُوَ الْمِفْتَاحُ لِلْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلِذَلِكَ لَا تَتَجَاوَزْ هَذِهِ النُّقْطَةَ حَتَّى تُؤْمِنَ فِعْلًا بِبَيَانِ الْوَحْيِ وَيُسْرِهِ، وَتَبْدَأَ بِفَهْمِهِ وَتُدَبِرِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَنْ تَسْتَفِيدَ شَيْئًا مِنْ بَقِيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ.
لِذَلِكَ تَوَقَّفْ هُنَا، وحَاوِل أَنْ تَفَهَمَ الْقُرْآنَ، وَقَدْ حَضَّرْتُ لَكَ بَحْثًا يُسَاعِدُكَ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّهُ الْبَحْثُ الْمُعَنْونُ بكيف نفهم القرآن والسنة، اقْرَأْهُ عَلَى مَهْلٍ، وَابْدَأْ فِي ابْصَارِ نُورِ الْوَحْيِ، حَتَّى تَعْتَادَ عَلَيْهِ، وَتَشْعُرَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَهَا وَاصَلَ قِرَاءَةَ هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهُ سَاعَتُهَا سَوْفَ يُفِيدُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وِحْدَةُ الْإِسْلَامِ وَتَعَدُّدُ الْمَذَاهِبِ
الْآنَ دَعْنَا نَعُودُ لِتُرَاثِنَا، فَنَحْنُ وَرِثْنَا دِينًا نُسَمِّيهِ بِالْإِسْلَامِ، وَنَعْلَمُ مِنْ فِطْرَتِنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَاتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَحْصُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
إِذَا دَقَقْنَا النَّظَرَ فَإِنَّنَا نَجِدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي وَرِثْنَاهُ فِيهِ مَذْهَبَيْنِ كَبِيرَيْنِ، مَذْهَبُ السُّنَّةِ وَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ، فَجَمِيعُهُمْ مُسْلِمُونَ رَغْمَ كَوْنِهِمْ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا شَدِيدًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ ؟
لَكِنْ مَهْلًا، هَلْ الْإِسْلَامُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ نُسْخَتَانِ سُنَّةٌ وَشِيعَةٌ؟
لَا، الْإِسْلَامُ الَّذِي طَبَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينٌ وَاحِدٌ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ ؟
مِنْ أَيْنَ إِذَنْ أَتَتْنَا هَذِهِ النُّسَخُ، وَالسُّؤَالُ الْأَهَمُّ أَيْ الْمَذْهَبَيْنِ هُوَ الْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ، إِذَا كَانَ فِيهِمْ مَا يُمَثِّلُ الْإِسْلَامَ الصَّحِيحَ أَصْلًا؟
فِي الْوَاقِعِ عِنْدَمَا نَغُوصُ دَاخِلَ كُلِّ مَذْهَبٍ نَجِدُ أَنَّهُ بِدَوْرِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ مَذَاهِبَ، فَالْمَذْهَبُ السُّنِّيُّ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ مُجْتَمَعِي، يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ، كُلُّ مَذْهَبٍ مِنْهَا يَعْتَقِدُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَفِي نَفْسِ الْوَقتِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْأُخْرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا هُوَ الْإِسْلَامُ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي كُلِّ شَيٍّ.
نَعَمْ هِيَ مُخْتَلِفَةٌ فِي كُلِّ شَيٍّ فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهَا، وَلَا يَغُرَّنَّكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي مَسَائِلَ فَرْعِيَّةٍ فَقَطْ، فَالْمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَصَادِرِ التَّشْرِيعِ عِنْدَهَا، وَالْمَصَادِرُ هِيَ الْأُصُولُ، فَمَثَلًا الْمَالِكِيَّةُ يَخْتَصُّونَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَخْتَصُّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْأَحْنَافُ بِالِاسْتِحْسَانِ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
الِاخْتِلَافُ فِي الْأُصُولِ يَنْجُمُ عَنْهُ اخْتِلَافٌ فِي الْفُرُوعِ، وَبِالتَّالِي التَّفْرِقَةُ فِي الدِّينِ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّاطِبِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ (الْكُلِّيَّاتِ) (تضم) من الجزئيات غير قليل، (وشأنها) في الغالب أن لا (تختص) بِمَحَلٍّ دُونَ (مَحَلٍّ)، وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ.
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً في (الفروع) لَا تَنْحَصِرُ، مَا بَيْنَ فُرُوعِ عَقَائِدَ وَفُرُوعِ أَعْمَالٍ.
[الشاطبي، إبراهيم بن موسى ,الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني ,3/140]
وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي أُصُولِهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَلِكُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا مَصَادِرُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ صَلَاتَهُمْ مُخْتَلِفَةً، وَزَكَاتَهُمْ مُخْتَلِفَةً، وَحَجَّهُمْ مُخْتَلِفًا، وَصَوْمَهُمْ كَذَلِكَ، وَكُلَّ شَيْءٍ، فَأَمْرٌ مَا قَدْ تَجِدُهُ وَاجِباً فِي مَذْهَبٍ، وَهُوَ نَفْسُهُ مَكْرُوهٌ فِي مَذْهَبٍ آخَرَ.
مِثْلُ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ هِيَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَنْ قَرَأَهَا فَقَدْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَوْلَى.
لِذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اخْتِلَافَاتِهِمْ فِي مَسَائِلَ فَرْعِيَّةٍ مُجَرَّدُ كَذِبٍ مَفْضُوحٍ، وَحَجْبٌ لِلشَّمْسِ بِغِرْبَالٍ.
لَكَ الْحَقُّ فِي أَنْ تَسْأَلَ مَا دَامَ اخْتِلَافُهُمْ لِهَذَا الْحَدِّ الْكَبِيرِ، فَلِمَاذَا لَا نَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْمَشْهُورِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَظْهَرَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْأُصُولِ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا الدِّينُ؟
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الْوَجِيهِ يَكْمُنُ فِي شِقَّينِ:
الشِّقُّ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَدِمْ زَمَانٌ مِنْ مُنْكَرٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ، مَسَفِّهٍ لَهُمْ، وَلَوْ بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وَلَكِنْ نَظَرًا لِكَوْنِ الْغَالِبِيَّةِ مُتَمَذْهِبَةٌ، فَإِنَّ صَوْتَ الْمُنْكِرِ لَهُمْ لَا يُسْمَعُ غَالِبًا.
ثَانِيًا وَهُوَ الْأَهَمُّ، أَنَّهُ فِي مَرْحَلَةِ إِعْدَادِ الطَّالِبِ لِيَكُونَ عَالِمًا، فَإِنَّهُ يَتَرَبَّى عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ هِيَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ خَارِجَ إِطَارِ النَّقْدِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ، لِذَلِكَ عِنْدَمَا يَقْرَأُ الْوَحْيَ قُرْآنًا وَسُنَّةً، لَنْ يَزِيدَهُ إِلَّا تَمَسُّكًا بِهَا، كَمَا سَبَقَ وَبَيَّنْتُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَقَالِ كَيْفَ نَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ بِالْمُحَصِّلَةِ سَوْفَ يَكُونُ عِنْدَنَا مُتَمَذْهِبَةٌ تَرَعْرَعُوا عَلَى الْمَذَاهِبِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ دِينًا خَارِجَ الْمَذَاهِبِ، وَمِنْ ثَمَّ فَهُمْ لَنْ يُنْكِرُوا أَبَدًا عَلَى الْمَذَاهِبِ، تَمَامًا كَحَالِ الْقَسَاوِسَةِ الَّذِينَ تَرَبَّوْا عَلَى عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ السَّخِيفَةِ، فَهَؤُلَاءِ لَنْ يَنْتَقِدُوا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ مُطْلَقًا، فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ دِينًا خَارِجَهَا.
زِدْ عَلَى مَا سَبَقَ مَا يُقَدِّمُهُ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ مِنْ شُبُهَاتٍ لِيُبَرِّرُوا بِهَا وُجُودَ مَذَاهِبِهِمْ، مِنْ ذَلِكَ إِيهَامُهُمْ لِلْعَامَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ مُعْتَمِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَهِيَ مُعْتَمِدَةٌ عَلَى مَصَادِرِهِمْ الَّتِي اخْتَلَقُوا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ مَصَادِرُهُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا بِتَصْرِيحِهِمْ كَمَا صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الدُّرْدِيرِيِّ:
وَأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ مَثَلًا عِبَارَةٌ عَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَيْ الَّتِي بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيلِهَا فَالْأَحْكَامُ الَّتِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَا تُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الدُّسُوقِيُّ، حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ م1 ص 19
كَذَلِكَ إِيهَامُ الْعَامَّةِ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمَذَاهِبِ كَانُوا كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ، وَكُلُّهُمْ طَيِّبُونَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ جَوْهَرِيٌّ، وَهَذَا كَذِبٌ مَفْضُوحٌ مَنْ طَالَعَ كُتُبَ السَّلَفِ يَجِدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَشَدِّ الْخِلَافِ، مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي حَقِّ أَبِي حَنِيفَةَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَادَ الدِّينَ , كَادَ الدِّينَ،. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: يُذْكَرُ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَلَدِكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ , قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِبَلَدِكُمْ أَنْ تُسْكَنَ.
[العقيلي، الضعفاء الكبير للعقيلي، ٢٦٨/٤]
وَمَنْ رَجَعَ لِلْمَصْدَرِ سَوْفَ يُصْدَمُ لِهَوْلِ مَا سَوْفَ يَقْرَأُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ لَا تَقْرَأُ، وَلَا تَهْتَمُّ لِدِينِهَا أَصْلًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُنْشَغِلٌ بِدُنْيَاهُ، وَيَكْتَفِي بِتَرْدِيدِ مَا يَسْمَعُ عِنْدَ عُلَمَائِهِ، تَمَامًا كَحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ عُلَمَائِهِمْ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
وَمَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فِي حُجَجِ الْمُتَمَذْهِبَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا فَإِنِّي قَدْ نَشَرْتُ بَحْثًا شَامِلًا عَنْ الْمَذَاهِبِ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْمَذَاهِبِ نَطْرَحُ السُّؤَالَ:
أَيُّهَا الْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ، وَكَيْفَ تَكُونُ عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَدْيَانٍ مُتَمَايِزَةٍ فِيمَا بَيْنَهَا، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ كُلُّهَا دِينٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَلَّا يَبْدُوَ هَذَا سَخِيفًا، مُمَاثِلًا تَمَامًا لِسَخَافَةِ ثَلَاثَةٍ تُسَاوِي وَاحِدَ الَّتِي عِنْدَ النَّصَارَى.
الْبَعْضُ يَقُولُ هَذِهِ مَدَارِسٌ، وَالْآخَرُ يَقُولُ هَذِهِ اجْتِهَادَاتُ الْعُلَمَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّبْرِيرَاتِ، وَهَذَا لَا يَهُمُّ، لِأَنَّنَا بِالْمُحَصِّلَةِ عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَدْيَانٍ مُتَمَايِزَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَسَوَاءٌ سَمَّيْتَهَا مَدَارِساً أَوْ مَذَاهِباً أَوْ اجْتِهَادَاتٍ أَوْ أَدْيَاناً، فَهَذَا لَا يَجْعَلُهَا وَاحِدًا، بَلْ هِيَ أَرْبَعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ تَمَامًا، فَكَيْفَ أَصْبَحَتْ وَاحِدًا ؟
إِنَّنَا حِينَ نَنْظُرُ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ فِي الْقُرْآنِ نَجِدُهُ قَرِينَ الشِّرْكِ :
﴿مُنيبينَ إِلَيهِ وَاتَّقوهُ وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكونوا مِنَ المُشرِكينَمِنَ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيهِم فَرِحونَ﴾
[الروم: ٣١-٣٢]
وَكُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانِ.
﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ تَفَرَّقوا وَاختَلَفوا مِن بَعدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُم عَذابٌ عَظيمٌيَومَ تَبيَضُّ وُجوهٌ وَتَسوَدُّ وُجوهٌ فَأَمَّا الَّذينَ اسوَدَّت وُجوهُهُم أَكَفَرتُم بَعدَ إيمانِكُم فَذوقُوا العَذابَ بِما كُنتُم تَكفُرونَ﴾
[آل عمران: ١٠٥-١٠٦]
كَمَا نَجِدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ أَهْلِهِ :
﴿إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ﴾
[الأنعام: ١٥٩]
وَنَجِدُ أَنَّهُ سَبَبُ هَلَاكِ الْأُمَمِ
«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»
[مسلم، صحيح مسلم، ٩٧٥/٢]
أَنْتَ أَمَامَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، إِمَّا أَنْ تَقْبَلَ أَنَّ هُنَاكَ مُشْكِلَةٌ مَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا الْإِسْلَامَ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ أَرْبَعَةَ أَدْيَانٍ، أَوْ تُثْبِتُ أَنَّهَا دِينٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا مُحَالٌ نَظَرًا لِاخْتِلَافَاتِهَا الَّتِي لَا تَنْتَهِي، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الكافِرينَ وَأَعَدَّ لَهُم سَعيرًاخالِدينَ فيها أَبَدًا لا يَجِدونَ وَلِيًّا وَلا نَصيرًايَومَ تُقَلَّبُ وُجوهُهُم فِي النّارِ يَقولونَ يا لَيتَنا أَطَعنَا اللَّهَ وَأَطَعنَا الرَّسولاوَقالوا رَبَّنا إِنّا أَطَعنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلّونَا السَّبيلارَبَّنا آتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذابِ وَالعَنهُم لَعنًا كَبيرًا﴾
[الأحزاب: ٦٤-٦٨]
يَنْطَبِقُ عَلَيْكَ تَمَامًا، فَانْتِمَاؤُكَ لِمُجْتَمَعِكَ جَعَلَكَ تَرْفُضُ رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَتُفَضِّلُ طَاعَةَ سَادَاتِ مُجْتَمَعِكَ وَكُبَرَاءَهُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْإِسْلَامَ، حَيْثُ يَجْعَلُونَهُ أَدْيَانًا عِدَّةً، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ.
كَمْ رَبًّا نَعْبُدُ ؟
أَيْضًا وَرِثْنَا مِنْ مُجْتَمَعِنَا أَنَّ رَبَّنَا اللَّهُ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَرِثْ الْمَعْنَى الْكَامِلَ لِكَلِمَةِ الرَّبِّ، فَكَلِمَةُ الرَّبِّ عِنْدَنَا تَعْنِي الْخَالِقَ الْمُرَبِّيَ بِالنَّعَمِ وَحَسْبُ، بَيْنَمَا كَلِمَةُ الرَّبِّ تَعْنِي أَيْضًا سَيِّدَنَا صَاحِبَ الْأَمْرِ، يَقُولُ رَبُّنَا مُعَرِّفًا لِعِبَادِهِ مَنْ رَبُّهُمْ :
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ يَطلُبُهُ حَثيثًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمينَ﴾
[الأعراف: ٥٤]
وَيَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وَقالَ المَلِكُ ائتوني بِهِ فَلَمّا جاءَهُ الرَّسولُ قالَ ارجِع إِلى رَبِّكَ فَاسأَلهُ ما بالُ النِّسوَةِ اللّاتي قَطَّعنَ أَيدِيَهُنَّ إِنَّ رَبّي بِكَيدِهِنَّ عَليمٌ﴾
[يوسف: ٥٠]
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ إِلَى سَيِّدِكَ الَّذِي تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، لِذَلِكَ قَوْلُنَا اللَّهُ رَبُّنَا الْمَفْرُوضُ أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ اللَّهَ سَيِّدُنَا، لَيْسَ لَنَا سَيِّدٌ يَأْمُرُنَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ، فَهَلْ اللَّهُ رَبُّنَا وَحْدَهُ أَمْ لَنَا أَرْبَابٌ مُتَشَاكِسُونَ ؟
الْإِجَابَةُ سَهْلَةٌ جِدًّا، يَكْفِي أَنْ نَعْرِفَ بِأَمْرِ مَنْ نَأْتَمِرُ، فَمَنْ يَأْمُرُنَا هُوَ رَبُّنَا فِعْلًا، وَلَوْ لَمْ نُسَمِّيهِ رَبًّا.
فِي مُجْتَمَعِي الْفَرْدُ خَاضِعٌ لِعِدَّةِ أَرْبَابٍ مُتَشَاكِسُونَ، فِيمَا يَلِي بَيَانُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُمْ
الْهَوَى
يَتَرَبَّى الْفَرْدُ مِنَّا عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ أَمْرٌ مُبَاحٌ شَرْعًا، وَهَذَا فِي اعْتِقَادِي أَكْبَرُ إِلَهٍ نَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمُخْتَفِي وَرَاءَ كُلِّ الْآلِهَةِ الَّتِي سَوْفَ أَتَحَدَّثُ عَنْهَا لَاحِقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
إِنَّ إِرَادَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا جَرِيمَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا صَاحِبُهَا يَتَوَعَّدُهُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي قَوْلِهِ:
﴿مَن كانَ يُريدُ الحَياةَ الدُّنيا وَزينَتَها نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمالَهُم فيها وَهُم فيها لا يُبخَسونَأُولئِكَ الَّذينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وَباطِلٌ ما كانوا يَعمَلونَ﴾
[هود: ١٥-١٦]
لِأَنَّهَا تَعْنِي عَدَمَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ، وَعِبَادَةِ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي أَصْحَابِ النَّارِ:
﴿فَأَمّا مَن طَغىوَآثَرَ الحَياةَ الدُّنيافَإِنَّ الجَحيمَ هِيَ المَأوى﴾
[النازعات: ٣٧-٣٩]
وَفِي الْمُقَابِلِ قَالَ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ:
﴿وَأَمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوىفَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوى﴾
[النازعات: ٤٠-٤١]
لِذَلِكَ نَحْتَاجُ أَوَّلًا وَقَبِلَ أَيِّ شَيْءٍ إِلَى التَّحَرُّرِ مِنْ إِرَادَةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّنَا إِذَا لَمْ نَتَحَرَّرْ مِنْهَا فَإِنَّنَا لَنْ نَتَحَرَّرَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَرْبَابِ الْآخَرِينَ، لِأَنَّنَا إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ بِسَبَبِ حُبِّنَا لِلدُّنْيَا، وَالْعِيَاذِ بِاَللَّهِ.
عَادَاتُ وَتَقَالِيدُ الْمُجْتَمَعِ
يُعْتَبَرُ الْمُجْتَمَعُ مُمَثَّلًا فِي الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ مِنْ أَقْدَمِ الْآلِهَةِ الَّتِي أَشْرَكَ بِهَا الْبَشَرُ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظَافِرِهِ يَخْضَعُ لِتِلْكَ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ دُونَ وَعْيٍ مِنْهُ، فَهِيَ الَّتِي تُشَكِّلُ عَادَاتِهُ وَتَقَالِيدَهُ هُوَ نَفْسِهِ.
يَظْهَرُ الْمُجْتَمَعُ كَرَبٍّ مَعْبُودٍ عِنْدَمَا تَكُونُ عَادَاتُهُ وَتَقَالِيدُهُ مُخَالَفَةً لِشَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْنَضْرِبْ مَثَلًا يُبْرُزُ ذَلِكَ.
فِي مُجْتَمَعَاتِنَا الْعَرَبِيَّةِ تُعْتَبَرُ الْعِفَّةُ مُرْتَبِطَةً بِالشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنَاثِ فَقَطْ دُونَ الذُّكُورِ، فَكَانَتْ النَّتِيجَةُ أَنَّ الْفَتَيَاتِ يَتَعَفَّفْنَ خَوْفًا عَلَى سُمْعَتِهِنَّ فِي الْمُجْتَمَعِ، بَيْنَمَا لَا يَجِدُ الْكَثِيرُ مِنْ الشَّبَابِ الْحَرَجَ فِي الْوُقُوعِ فِي جَرِيمَةِ الزِّنَا، لِأَنَّ الْمُجْتَمَعَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا.
مَا سَبَقَ يُبَيِّنُ صُورَةً وَاضِحَةً مِنْ عِبَادَةِ الْمُجْتَمَعِ فَحِينَ يُحِلُّ الْمُجْتَمَعُ أَمْرًا يَشِيعُ فِي النَّاسِ، وَإِذَا حَرَّمَ الْمُجْتَمَعُ أَمْرًا اجْتَنَبَهُ النَّاسُ، فَالنَّاسُ تَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالْمُتَمَثِّلَةِ فِي فَسَادِ السُّمْعَةِ.
مَا ذَكَرْتُهُ آنِفًا مُجَرَّدُ مِثَالٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ سُلْطَةَ الْمُجْتَمَعِ تَظْهَرُ تَقْرِيبًا فِي أَغْلَبِ تَصَرُّفَاتِ الْأَفْرَادِ الْفَرْدِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ مُجْتَمَعٍ إِلَى آخَرَ، فَمَثَلًا قَدْ تَجِدُ فِي مُجْتَمَعٍ مُعَيَّنٍ مَعْصِيَةً مَا وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ مُبَاحٌ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ يُشَدِّدُ الْمُجْتَمِعُ عَلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى، مَثَلًا قَدْ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ لَا يُصَلِّي، وَفِي الْمَسَاءِ يَفْطِرُ بِالْخَمْرِ، وَالسَّبَبُ أَنَّ مُجْتَمَعَهُ لَا يَقْبَلُ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ يُبِيحُ الْخَمْرَ وَعَدَمَ الصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ عَابِدُ الْمُجْتَمَعِ يَصُومُ، وَلَا يُصَلِّي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ.
سُلْطَةُ الْفُقَهَاءِ
يُمَارِسُ الْفُقَهَاءُ سُلْطَةَ التَّشْرِيعِ فِي الدِّينِ اللَّهِ بِدَعْوَى الِاجْتِهَادِ، فَيُحِلُّونَ وَيُحْرُمُونَ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدَ تُوَارَثُوهَا عَبْرَ الْعُصُورِ، وَاَلَّتِي تَقُومُ فِي أَصْلِهَا عَلَى عَدَمِ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ إِمَّا لِانْعِدَامِ النَّصِّ أَصْلًا، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ أَوْ الثُّبُوتِ، وَبِالْمُحَصِّلَةِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ الْوَحْيِ، فَيُحِلُّونَ، وَيُحَرِمُونَ، فَوَقَعَ فِيهِمْ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»
[البخاري ,صحيح البخاري ,1/31]
وَوَقَعَ فِي عَابِدِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلهًا واحِدًا لا إِلهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ﴾
[التوبة: ٣١]
فَهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ بِخُضُوعِهِمْ لِفَتَاوِيهِمْ، فَيُحِلُّوا مَا أَحَلُّوا لَهُمْ، وَيُحَرِّمُوا مَا حُرِّمُوا عَلَيْهِمْ.
إِذَا كُنْتَ تَعْتَقِدُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي التَّشْرِيعِ مِنْ الدِّينِ - وَهُوَ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ جِدًّا - فَأَرْجُوا أَنْ تَقُومَ بِمُرَاجَعَةِ بَحْثَيْ التَّشْرِيعِ وَالِاجْتِهَادِ لِأَنَّنِي نَاقَشْتُ فِيهِمَا هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ بِإِسْهَابٍ، كَمَا نَاقَشْتُ أَدِلَّةَ الْقَائِلِينَ بِالِاجْتِهَادِ .
شَيْخُ الطَّرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ:
حَيْثُ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الذِّكْرِ، فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، تُسَمَّى وَرْدَّ الشَّيْخِ، لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مُتَّبِعِي الشَّيْخِ الْقِيَامَ بِهِ.
قَدْ تَقُولُ مَا دَامَ يَأْمُرُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَلَا مُشْكِلَةَ، وَأَقُولُ لَكَ نَعَمْ، لَوْ كَانَ الْأَمْرُ مُجَرَّدُ الحَضِّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ يُخَصِّصُ طَرِيقَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الذِّكْرِ، فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَا يَأْمُرُ بِهَا إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ، وَهُنَا تَبْرُزُ رُبُوبِيَّتُهُ.
فَمَنْ أَعْطَاهُ الْحَقَّ فِي تَحْدِيدِ مَقَادِيرِ الذِّكْرِ لِلنَّاسِ؟ وَتَحْدِيدِ أَوْقَاتِهَا؟
إِنَّ الْعَامِلَ بِهَذَا الْوَرْدِ عَابِدٌ لِهَذَا الشَّيْخِ، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ طَاعَةً لِشَيْخِهِ، وَلَيْسَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ لِمَنْ أَطَعْتَ، وَلَيْسَتْ لِمَنْ فُعِلَ لَهُ الْأَمْرُ.
مَثَلًا سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ، هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ مَنْ أَمَرَ بِهِ، مَعَ أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ، كَذَلِكَ الْقِيَامُ بِالْوِرْدِ هُوَ عِبَادَةٌ لِلشَّيْخِ، لِأَنَّهُ هُوَ مَنْ أَمَرَ بِهِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الذِّكْرَ الْوَارِدَ فِي الْوَرْدِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ، فَهَلْ اتَّضَحَتْ هَذِهِ النُّقْطَةُ ؟
اكْتُبْ لِي مَا إِذَا كُنْتَ فَهِمْتَهَا وَتَعْلِيقَكَ عَلَيْهَا رَجَاءً، حَتَّى نُنَاقِشَهَا، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ.
كَذَلِكَ تَبْرُزُ رُبُوبِيَّةُ الشَّيْخِ، فِي اعْتِقَادِ أَتْبَاعِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، بِحَيْثُ يُنْذِرُونَ لَهُ النُّذُورَ، وَيُقَدِّمُونَ إِلَيْهِ الْقَرَابِينَ، فِي مُقَابِلِ تَحَقُّقِ غَايَاتِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، حَيْثُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِشَيْخِهِمْ - بِلِسَانِ حَالِهِمْ - قُدْرَةً عَلَى تَصْرِيفِ الْكَوْنِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِاَللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ.
فَكِّرْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا، فَهِيَ غَايَةٌ فِي الْأَهَمِّيَّةِ، وَأَعْطِنِي رَأْيَكَ فِي التَّعْلِيقَاتِ.
سُلْطَةُ الدَّوْلَةِ الْحَدِيثَةِ
تَقُومُ الدَّوْلَةُ الْحَدِيثَةُ عَلَى سِيَادَةِ دِينِهَا الْمُسَمَّى بِالْقَانُونِ الْوَضْعِيِّ، وَفِي الْقَانُونِ عِدَّةُ أَرْبَابٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقُّ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ فِي نِطَاقٍ مُعَيَّنٍ، هَؤُلَاءِ الْأَرْبَابُ يَخْتَلِفُونَ مِنْ قَانُونٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ نِظَامٍ إِلَى آخَرَ، وَفِيمَا يَلِي أَبْرَزُ الْأَرْبَابِ فِي النِّظَامِ الدِّيمُقْرَاطِيِّ:
الشَّعْبُ
يُعْتَبَرُ الشَّعْبُ الرَّبَّ الْأَعْلَى فِي الْأَنْظِمَةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ، أَيْ أَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا، فَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ فِي سِنِّ الْقَوَانِينِ، وَفِعْلُ مَا يَشَاءُ، بِحَسْبِ الدَّسَاتِيرِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ.
يُمَثِّلُ الشَّعْبَ فِي النِّظَامِ الرِّئَاسِيِّ الرَّئِيسُ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ أَعْلَى سُلْطَةٍ، لِأَنَّهُ أَسْمَى تَعْبِيرٍ عَنْ إِرَادَةِ الشَّعْبِ، وَهَذَا هُوَ النِّظَامُ الَّذِي كَانَ قَائِمًا فِي عَهْدِ فِرْعَوْنَ، فَفِرْعَوْنَ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا، وَهَذَا مَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
﴿فَحَشَرَ فَنادىفَقالَ أَنا رَبُّكُمُ الأَعلى﴾
[النازعات: ٢٣-٢٤]
فَهُوَ رَئِيسُ الدَّوْلَةِ، وَرَئِيسُ الْمَجْلِسِ الْأَعْلَى الْقَضَاءَ، وَهُوَ قَائِدُ جُيُوشِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا رَئِيسُ الْحُكُومَةِ، وَرَئِيسُ الْبَرْلَمَانِ، وَبِالتَّالِي تَجْتَمِعُ بِيَدِهِ السُّلْطَةُ وَالنُّفُوذُ، وَهَذَا مَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ أَيْضًا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ هُوَ إِلَهُ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ:
﴿وَقالَ فِرعَونُ يا أَيُّهَا المَلَأُ ما عَلِمتُ لَكُم مِن إِلهٍ غَيري﴾
[القصص: ٣٨]
فَهُوَ إِلَهٌ لِقَوْمِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَخْضَعُونَ لَهُ خُضُوعًا مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّهُ صَاحِبُ الْقُوَّةِ الَّذِي يَتَّقَوَوْنَ بِهِ، وَمِنْ هُنَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ مَعَانِي كَلِمَةِ الْإِلَهِ.
فِي الْأَنْظِمَةِ الْبَرْلَمَانِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْبَرْلَمَانُ أَسْمَى تَعْبِيرٍ عَنْ إِرَادَةِ الشَّعْبِ، وَمِنْ الْكُتْلَةِ الْأَكْبَرِ يَخْرُجُ رَئِيسُ الْوُزَرَاءِ الَّذِي يُمَثِّلُ رَئِيسَ الدَّوْلَةِ فِي الْأَنْظِمَةِ الرِّئَاسِيَّةِ.
الْمُشَرِّعُونَ
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَابِ فِي الدُّوَلِ الْحَدِيثَةِ هُمْ الْمُشَرِّعُونَ الَّذِي يُمَثِّلُونَ نَاخِبِيهِمْ فِي الْمَجَالِسِ التَّشْرِيعِيَّةِ.
يَقُومُ الْمُشَرِّعُونَ بِسَنِّ التَّشْرِيعَاتِ وَالْقَوَانِينِ الَّتِي يَعْمَلُ وَفْقَهَا الْقَضَاءُ وَالسُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا كَانُوا أَرْبَابًا لِمَنْ يَخْضَعُ لِتَشْرِيعَاتِهِمْ.
الْقُضَاةُ وَوُكَلَاءُ الدَّوْلَةِ
تُعْطِي الْقَوَانِينُ الْوَضْعِيَّةُ لِلْقُضَاةِ وَوُكَلَاءِ الدَّوْلَةِ سُلْطَةً ضِمْنَ نِطَاقٍ مُعَيَّنٍ، وَمِنْ هُنَا صَارُوا أَرْبَابًا يُمَارِسُونَ سُلْطَتَهُمْ عَلَى قَاطِنِي الْبَلَدِ، يَأْمُرُونَ فَيُطَاعُونَ، وَيَنْهَوْنَ فَيُنْتَهَى.
بِالطَّبْعِ لَوْ كَانَتْ دَوْلَتُنَا دَوْلَةً مُسْلِمَةً تَحْكُمُ بِشَرْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمَا كَانَتْ سُلْطَةً مُسْتَقِلَّةً بِذَاتِهَا، لِأَنَّهَا فَقَطْ أَدَاةٌ لِتَطْبِيقِ شَرْعِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ الْحَالَ فِي دُوَلِنَا الْآنَ، حَيْثُ أَنَّ دُوَلَنَا تَدِينُ بِقَانُونٍ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ، هُوَ مَا تُطَبِّقُهُ عَلَى النَّاسِ.
لِذَلِكَ قَوْلُنَا رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا الَّذِي وَرِثْنَاهُ مِنْ مُجْتَمَعِنَا هُوَ مُجَرَّدُ كَلِمَاتٍ وَاقِعُنَا يُخَالِفُهَا، فَمَا الْعَمَلُ؟
عِنْدَمَا نَرْجِعُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ لِأَبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصنامًا آلِهَةً إِنّي أَراكَ وَقَومَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾
[الأنعام: ٧٤]
نَجِدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِنْتَاجِ بُطْلَانِ اتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى وَالِدِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَآكَدِهَا
إِنّي أَراكَ وَقَومَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ
وَفِي الْوَاقِعِ رَبُّنَا ذَكَرَ هَذَا الْإِنْكَارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْتَاجَ، فَمَاذَا يَعْنِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا نَحْنُ؟
هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي أَنْ نَسْتَنْتِجَ بُطْلَانَ مَا يَدِينُ بِهِ قَوْمُنَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ الصَّرِيحُ، كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ وَالِدِهِ وَقَوْمِهِ، فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ ؟
الْخُطُوةُ الثَّانِيَّةُ: الْبَحْثُ عَنْ الْحَقِّ
بَعْدَ تَحْرِيرِ النَّفْسِ مِنْ الْمِيرَاثِ يُصْبِحُ الْإِنْسَانُ حُرًّا فِي تَفْكِيرِهِ، قَادِرًا عَلَى تَقْدِيرِ الْأُمُورِ تَقْدِيرًا صَحِيحًا دُونَ تَشْوِيشٍ مِنْ أَفْكَارٍ مُسْبَقَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ تَبْدَأُ رِحْلَةُ الْبَحْثِ عَنْ الْحَقِّ، فَكَوْنُكَ عَرَفْتَ أَنَّ قَوْمَكَ عَلَى بَاطِلٍ لَا يَعْنِي بِالضَّرُورَةِ أَنَّكَ أَصْبَحْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّكَ عَرَفْتَ جُزْءًا مِنْ الْحَقِّ، وَهُوَ بُطْلَانُ آلِهَةِ قَوْمِكَ وَحَسْبُ .
بَدَأَ وَالِدُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِ الْعِنَانِ لِعَقْلِهِ، يَنْظُرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ نَظْرَةً شَامِلَةً بَاحِثَةً عَنِ الْإِلَهِ الْحَقُّ:
﴿وَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَلِيَكونَ مِنَ الموقِنينَ﴾
[الأنعام: ٧٥]
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ النَّظْرَةَ لِلْكَوْنِ سَوْفَ تُوصِلُهُ لِلْيَقِينِ، لِأَنَّهَا تَنْطَلِقُ مِنْ وَاقِعٍ مَحْسُوسٍ يَرَاهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْيَقِينُ نَفْسُهُ، - الْبَعْضُ يَقُولُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعِشْ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ، سَوْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي مُلْحَقٍ آخَرَ الْبَحْثِ، حَتَّى لَا أُشَوِّشَ عَلَيْكَ - لِذَلِكَ وَنَحْنُ نَتَّبِعُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُحَقِّقَ عِبَادَةَ اللَّهِ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، عَلَيْنَا التَّأَمُّلُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
لِأَنَّ هَذَا التَّأَمُّلَ سَوْفَ يَجْعَلُنَا نُدْرِكُ بَعْضَ عَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَالْإِنْسَانُ يُؤْمِنُ بِمَا يَرَى أَكْثَرَ مِنْ الْغَيْبِ، وَنَحْنُ عِنْدَمَا نُرَكِّزُ تَأَمُّلَنَا عَلَى هَذِهِ الشَّمْسِ الْعَظِيمَةِ، وَهَذِهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا اللَّيْلِ، وَهَذَا النَّهَارِ، وَسَائِرِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّنَا نَسْتَنْتِجُ يَقِينًا أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَا مُتَنَاهِيَةٌ أَبَدًا، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَحُنَا الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ، وَالشَّجَاعَةَ عَلَى مُوَاجَهَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ.
وَلِكَيْ نَرَى مَشْهَدًا حَيًّا لِتَأْثِيرِ التَّأَمُّلِ فِي خَلْقِ اللَّهِ نَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿أَو كَالَّذي مَرَّ عَلى قَريَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها قالَ أَنّى يُحيي هذِهِ اللَّهُ بَعدَ مَوتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَم لَبِثتَ قالَ لَبِثتُ يَومًا أَو بَعضَ يَومٍ قالَ بَل لَبِثتَ مِائَةَ عامٍ فَانظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يَتَسَنَّه وَانظُر إِلى حِمارِكَ وَلِنَجعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانظُر إِلَى العِظامِ كَيفَ نُنشِزُها ثُمَّ نَكسوها لَحمًا فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾
[البقرة: ٢٥٩]
فَهَذَا الرَّجُلُ تَحَوَّلَ مِنْ شَخْصٍ مُسْتَغْرِبٍ مِنْ بَعَثِ قَرْيَةٍ، إِلَى مُوقِنٍ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالسَّبَبُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يَرَى كَيْفَ أَحْيَى حِمَارَهُ، مَعَ أَنَّ حِمَارَهُ كَانَ حَيًّا، وَكَانَ أَمَامَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْتَبِهًا لِآيَةِ خَلْقِ الْحِمَارِ، وَكَيْفَ نَشَرَ اللَّهُ عِظَامَهُ وَكَسَاهَا لَحْمًا، لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ عَلَيْهِ.
نَحْنُ أَيْضًا مُعْتَادُونَ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ أَمَامَنَا، فَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْحَيَوَانَاتُ أَمَامَنَا، وَالنَّبَاتَاتُ، فَمَا عُدْنَا نَنْتَبِهُ لِقُدْرَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهَا، وَلَا فِي خَلْقِنَا، لِذَلِكَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَوَقَّفَ، وَنَأْخُذَ الْوَقْتَ فِي تَأَمُّلِ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ حَوْلِنَا، حَتَّى نَصِلَ إِلَى الْيَقِينِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِعْلًا.
وَأَحْسَنُ طَرِيقَةٍ لِلتَّأَمُّلِ، هِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ آيَاتِ اللَّهِ الْمَنْظُورَةِ، وَآيَاتِهِ الْمَقْرُوءَةِ، فَأَغْلَبُ الْقُرْآنِ يُرَكِّزُ عَلَى لَفْتِ انْتِبَاهِنَا لِمَا حَوْلَنَا مِنْ مَخْلُوقَاتٍ شَاهِدَةٍ عَلَى عَظِيمِ قُدٔرَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لِذَلِكَ حِينَ نَقْرَأُ كَلَامَ رَبِّنَا، وَنُشَاهِدُ مَا يَتَحَدَّثُ عَنْهُ أَمَامَنَا، يَحْصُلُ عِنْدَنَا الْيَقِينُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَحْدَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بِحَقٍّ، وَمَنْ يَجِبُ أَنْ نَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَمَثَلًا حِينَ تَقْرَأُ:
﴿أَلَم نَجعَلِ الأَرضَ مِهادًاوَالجِبالَ أَوتادًاوَخَلَقناكُم أَزواجًاوَجَعَلنا نَومَكُم سُباتًاوَجَعَلنَا اللَّيلَ لِباسًاوَجَعَلنَا النَّهارَ مَعاشًاوَبَنَينا فَوقَكُم سَبعًا شِدادًاوَجَعَلنا سِراجًا وَهّاجًاوَأَنزَلنا مِنَ المُعصِراتِ ماءً ثَجّاجًالِنُخرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتًاوَجَنّاتٍ أَلفافًا﴾
[النبأ: ٦-١٦]
وَتَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ الْمُمَهَّدَةِ لَكَ، وَالْجِبَالِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي حَوْلَكَ، وَتَنْظُرُ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَكَامُلِكَ مَعَ زَوْجِكَ، وَلَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَتَنْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَكَ، وَالشَّمْسِ السَّاطِعَةِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَجَعَلَ فِيهَا جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَمُخْتَلِفَةٍ، لَا شَكَّ سَوْفَ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، بِمَا فِيهِ بَعْثُكَ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَسَوْفَ تُدْرِكُ أَنَّ مُهِمَّتَكَ عَظِيمَةٌ جِدًّا، بِسَبَبِهَا سَخَّرَ اللَّهُ لَكَ هَذَا الْكَوْنَ كُلَّهُ، فَتَفِرُّ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلَمَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا دُونَهُ هُوَ الْبَاطِلُ وَمِنْ ثَمَّ تَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِإِعْلَانِ الْإِسْلَامِ.
يُخْبِرُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأى كَوكَبًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَفَلَمّا رَأَى القَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِن لَم يَهدِني رَبّي لَأَكونَنَّ مِنَ القَومِ الضّالّينَ﴾
[الأنعام: ٧٦-٧٧]
وَيُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَنْتِجَ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ:
أَوَّلًا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِطْرَتِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِلَهَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِيًا قَوِيًّا، وَلِذَلِكَ بَدَأَ مَعَ الْكَوْكَبِ الَّذِي بَدَا مُضِيئًا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ.
ثَانِيًا أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ لَا يَغِيبَ، فَهُوَ مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَبِالتَّالِي إِذَا غَابَ فَإِنَّهُ عَابِدُهُ سَوْفَ يَنْقَطِعُ عَنْ عِبَادَتِهِ.
ثَالِثًا ضَعُفَ الْمَخْلُوقُ عَنْ هِدَايَةِ نَفْسِهِ وَبِالتَّالِي التَّوَجُّهُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ رَاجِيًا الْهِدَايَةَ:
لَئِن لَم يَهدِني رَبّي لَأَكونَنَّ مِنَ القَومِ الضّالّينَ
وَهُوَ بِهَذَا حَقَّقَ شَرْطًا أَسَاسِيًّا لِتَحَقُّقِ الْهِدَايَةِ، أَلَا وَهُوَ الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُل إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ وَيَهدي إِلَيهِ مَن أَنابَ﴾
[الرعد: ٢٧]
فَمَنْ أَنَابَ إِلَى اللَّهِ بِصِدْقٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَوْفَ يَهْدِيهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لِذَلِكَ اصْدُقْ فِي إِنَابَتِكَ إِلَى اللَّهِ، وَاَللَّهُ سَوْفَ يَهْدِيكَ كَمَا هَدَى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْخُطُوةُ الثَّالِثَةُ: تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَإعْلانُ الإسْلامِ
إِنَّ بَحْثَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَحَثَنَا السَّابِقُ، لَا شَكَّ أَنَّهُ سَوْفَ يُوصِلُنَا لِنَتِيجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الَّتِي أَعْلَنَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ :
﴿فَلَمّا رَأَى الشَّمسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبّي هذا أَكبَرُ فَلَمّا أَفَلَت قالَ يا قَومِ إِنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَإِنّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرضَ حَنيفًا وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾
[الأنعام: ٧٨-٧٩]
وَهِيَ الَّتِي تَبْدَأُ بِإِعْلَانِ الْبَرَاءَةِ مِمَّا يُشْرِكُ قَوْمُنَا:
قالَ يا قَومِ إِنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَ
فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ وَالْأَدْيَانِ الَّتِي عِنْدَكُمْ، فَأَنَا كَافِرٌ بِسُلُطَاتِكُمْ الَّتِي تَخْضَعُونَ لَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّيْخَ الصُّوفِيَّ، أَوْ عَالِمَ الْمَذْهَبِ، أَوْ الدَّوْلَةَ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ بَرِيءٌ مِنْهُمْ لَا أَتَلَقَّى مِنْهُمْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا.
إِنّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرضَ
فَلَا أَتَلَقَّ أَمْرًا، وَلَا تَصَوُّرًا، وَلَا شَيْئًا مَهْمَا كَانَ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَوَجْهِي مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ. فَهُوَ الْمَصْدَرُ الْوَحِيدُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ لِي، سَوَاءٌ كَانَ تَشْرِيعًا، أَوْ عَادَاتٍ، أَوْ تَصَوُّرَاتٍ، أَوْ فِكْرٍ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ، وَهُوَ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيَّ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا إِمَامَ لِي أَتَّبِعُهُ إِلَّا هُوَ، وَلَا مَصَادِرَ لِلتَّشْرِيعِ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ :
حَنيفًا
مَائِلًا عَنْكُمْ، شَاذًّا عَنْكُمْ، مُعْرِضًا عَنْ مَصَادِرِكُمُ الَّتِي تَتَّخِذُونَ مِنْهَا تَصَوُّرَاتِكُمْ وَتَشْرِيعَاتِكُمْ، وَزِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ
وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ
فَأَنَا لَسْتُ مِنْكُمْ، وَلَسْتُمْ مِنِّي، فَهَوِيَّتِي مُسْلِمٌ لِلَّهِ، وَهَوِيَتُكُمْ مُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ، لِذَلِكَ نَحْنُ نَقِيضَانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُنَا.
هَذَا هُوَ إِعْلَانُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ لِكَيْ نَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يَجْعَلُنَا ضِدَّ مُجْتَمَعِنَا، فَهُوَ تَمَرُّدٌ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَثَوْرَةٌ، الْمُجْتَمَعُ سَوْفَ يَرَاهَا اعْتِدَاءً عَلَيْهِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ رَدَّةَ فِعْلِهِ سَتَكُونُ عَنِيفَةً جِدًّا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوَاجِهَنَا بِالْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ نُكْرَانُ أَنَّ الْمَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا بِحَيْثُ أَنَّهَا أَدْيَانٌ مُتَمَايِزَةٌ.
وَلَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَ أَنَّ الدَّوْلَةَ لَا تُطَبِّقُ شَرْعَ اللَّهِ، فَهِيَ أَصْلًا لَا تَدَّعِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَ أَنَّ الشَّيْخَ الصُّوفِيَّ يُحَدِّدُ مَقَادِيرَ الذِّكْرِ لِأَتْبَاعِهِ، وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ يُقَدِّمُونَ لَهُ الْقَرَابِينَ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ غَايَاتِهِمْ، لِذَلِكَ فَإِنَّ رَدَّةَ الْفِعْلِ سَوْفَ تَكُونُ بِالْعُنْفِ الَّذِي يَبْدَأُ بِالتَّهْدِيدِ أَوَّلًا، كَمَا حَدَثَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَاوَلُوا تَخْوِيفَهُ، فَكَانَ رَدُّهُ صَاعِقًا:
﴿وَحاجَّهُ قَومُهُ قالَ أَتُحاجّونّي فِي اللَّهِ وَقَد هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشرِكونَ بِهِ إِلّا أَن يَشاءَ رَبّي شَيئًا وَسِعَ رَبّي كُلَّ شَيءٍ عِلمًا أَفَلا تَتَذَكَّرونَوَكَيفَ أَخافُ ما أَشرَكتُم وَلا تَخافونَ أَنَّكُم أَشرَكتُم بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ عَلَيكُم سُلطانًا فَأَيُّ الفَريقَينِ أَحَقُّ بِالأَمنِ إِن كُنتُم تَعلَمونَ﴾
[الأنعام: ٨٠-٨١]
لِذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِي أَنَا،وَأَنْتَ، فَإِنَّ التَّهْدِيدَ سَوْفَ يَكُونُ بِالسَّجْنِ أَوْ الْقَتْلِ، هَذَا إِذَا لَمْ يُنَفِّذُوهُ فَوْرًا، لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِرَدَّةِ الْفِعْلِ هَذِهِ، فَلَا تَتَفَاجَأُ، وَلَا تَجْزَعُ، إِذَا رَمَوْكَ فِي السِّجْنِ وَاتَّهَمُوكَ بِالتَّخْرِيبِ، فَتِلْكَ سُنَّةُ الْكَافِرِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكْفِي الْمَرْءُ سَعَادَةً أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ رَمَوْهُ فِي النَّارِ كَمَا تَعَلَمَ.
إِذَا لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ الشَّجَاعَةَ لِمُوَاجَهَةِ الْكُفَّارِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِتَحَمُّلِ الضَّرِيبَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ مُحْتَاجٌ لِلتَّرْكِيزِ فِي النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَنْظُورَةِ حَتَّى يَحْصُلَ عِنْدَكَ الْيَقِينُ عَلَى قُدْرَةِ الله جَلَّ جَلَالِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا تَصْبِرُ عَلَى أَذِيَّةِ النَّاسِ أَوْ تُهَاجِرُ عَنْهُمْ حَيْثُ تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِهِمْ كَمَا أَرْشَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ :
«يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ»
[البخاري ,صحيح البخاري ,9/53]
فَتَكُونُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ أَنَّهُمْ
﴿أُولئِكَ لَهُم جَنّاتُ عَدنٍ تَجري مِن تَحتِهِمُ الأَنهارُ يُحَلَّونَ فيها مِن أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلبَسونَ ثِيابًا خُضرًا مِن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ مُتَّكِئينَ فيها عَلَى الأَرائِكِ نِعمَ الثَّوابُ وَحَسُنَت مُرتَفَقًا﴾
[الكهف: ٣١]
أَوْ تَتَحَمَّلَ عَذَابَ اللَّهِ الْأَبَدِيَّ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر إِنّا أَعتَدنا لِلظّالِمينَ نارًا أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها وَإِن يَستَغيثوا يُغاثوا بِماءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجوهَ بِئسَ الشَّرابُ وَساءَت مُرتَفَقًا﴾
[الكهف: ٢٩]
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ مَصِيرٍ تُرِيدُ.
مُلْحَقٌ حَوْلَ تَجْرِبَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ الْبَعْضُ أَنَّ التَّجْرِبَةَ الَّتِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ:
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ لِأَبيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصنامًا آلِهَةً إِنّي أَراكَ وَقَومَكَ في ضَلالٍ مُبينٍوَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَلِيَكونَ مِنَ الموقِنينَفَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأى كَوكَبًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَفَلَمّا رَأَى القَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِن لَم يَهدِني رَبّي لَأَكونَنَّ مِنَ القَومِ الضّالّينَفَلَمّا رَأَى الشَّمسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبّي هذا أَكبَرُ فَلَمّا أَفَلَت قالَ يا قَومِ إِنّي بَريءٌ مِمّا تُشرِكونَإِنّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرضَ حَنيفًا وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ﴾
[الأنعام: ٧٤-٧٩]
أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعِشْهَا حَرْفِيًّا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَالَ لِلْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي الشِّرْكِ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ هَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ لِمُحَاجَجَةِ قَوْمِهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ عِبَادَتِهَا.
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ
أَوَّلًا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَنْطُوقَ الْآيَاتِ الصَّرِيحِ فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَنْ عَاشَ لِلتَّجْرِبَةِ
ثَانِيًا إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْمُسْتَفِيدُ مِنْ التَّجْرِبَةِ وَلَيْسَ قَوْمُهُ، فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ :
﴿وَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَلِيَكونَ مِنَ الموقِنينَ﴾
[الأنعام: ٧٥]
فَهُوَ مَنْ سَيَكُونُ مِنَ الْمُوقِنِينَ، لَا قَوْمُهُ.
ثَالِثًا فِي هَذَا تَكْذِيبٌ صَرِيحٌ لِعِدَّةِ مَقَاطِعَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّهُ بَقِيَ لَيْلَتَهُ سَهْرَانًا حَتَّى الصَّبَاحِ
فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ
فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بازِغًا
فَلَمّا رَأَى الشَّمسَ بازِغَةً
وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا أَنَّهُ يَجْمَعُ قَوْمَهُ لَيْلَةً كَامِلَةً، وَهُوَ لَيْسَ بِصَاحِبِ سُلْطَةٍ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، أَمَّا مَوْضُوعُ الشِّرْكِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقَعْ فِي الشِّرْكِ، فَقَوْلُهُ لِلْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي، لَمْ يَكُنْ بَعْدُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ رَبَّهُ وَإِنَّمَا فِي طَوْرِ الْبَحْثِ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُ رَبًّا فِعْلًا
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَنْ يَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَنْ يُلْحِقَنَا بِالصَّالِحِينَ وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمْدَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هذا البحث متوفر باللغة الإنجليزية هنا.