عبادة الهوى

قد تبدو عبادة الهوى للوهلة الأولى أمرا جليا من السهل تجنبه، ولكن إذا دققنا النظر فإن الأمر ليس كذلك، فعبادة الهوى قد تلبس ثوب الحق فيما يعتقد صاحبها، فلا يظن أنه يعبد الهوى وحسب، بل يظن أنه متجرد للحق أيما تجرد، ويعيب على خصومه اتباع الهوى، لذلك من الضروري بيان صور خفية من عبادة الهوى حتى نتجنبها بإذن الله جل جلاله وذلك من خلال المحاور التالية

المراد بالهوى في القرآن

الهوى لغة ميل النفس وشهوتها، وهو في القرآن كل ما خالف وحي الله عز وجل من إنتاج البشر، فكل ذلك يسميه الله أهواء، حيث أننا نجد هذا المعنى تكرر في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: 

﴿وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلَا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهواءَهُم بَعدَ الَّذي جاءَكَ مِنَ العِلمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ﴾ 

[البقرة: ١٢٠]

وفي قوله تعالى: 

﴿وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِع أَهواءَهُم وَاحذَرهُم أَن يَفتِنوكَ عَن بَعضِ ما أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ فَإِن تَوَلَّوا فَاعلَم أَنَّما يُريدُ اللَّهُ أَن يُصيبَهُم بِبَعضِ ذُنوبِهِم وَإِنَّ كَثيرًا مِنَ النّاسِ لَفاسِقونَ﴾ 

[المائدة: ٤٩]

فدين اليهود والنصارى رغم أن فيه تكاليف قد تكون شاقة، إلا أن الله يسميه أهواءهم، لأن الذي حملهم عليه ليس الدليل القاطع، وإنما ميل أنفسهم إليه.

لأن من تجرد من الهوى، وأراد الحق بصدق، سوف يُسلم لا محالة، لأن الحق الذي لا شك فيه أنزله رب العالمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ينبغي التنبيه أن اليهود والنصارى لا يعتبرون أنفسهم يتبعون الهوى مطلقا، وإنما يعتقدون أنهم يتبعون الحق، لذلك اعتقاد المرء عن نفسه إذا لم يصاحبه أدلة مجردة لا يغير شيئا من حقيقة صاحبه.

أقسام عبادة الهوى

عبادة الهوى تنقسم إلى ثلاثة أقسام حسب إدراك الشخص وهم: 

عبادة الهوى الصريحة 

حيث التي يمارس الفرد فيها عبادة الهوى وهو مدرك لذلك تماما، فهو يفعل ما يفعل من معاصي وهو على يقين من كونه عاص لله سبحانه مثل من يشرب الخمر أو يرتكب بعض المعاصي التي هو مقر بأنها معاصي، وهذا النوع من عبادة الهوى هو أقل درجات عبادة الهوى خطورة لأن صاحبه إنما يحتاج إيمان صادق باليوم الآخر ليتوقف عنه

عبادة الهوى المغلفة جزئيا 

تتطور عبادة الهوى الصريحة إلى نوع من التبرير لتلك المعاصي حتى يتوقف عن تأنيب الضمير، وهنا يبدأ تغليف معاصيه بذريعة أن حُرمتها ليست قطعية، وأن الأمر محل شبهة وقد لا يكون حراما أصلا، وحينها يبدأ القلب يتعود على المعصية ويبررها لنفسه، وهذه هي المرحلة التي وصفها ربنا عز وجل في قوله: 

﴿كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ﴾ 

[المطففين: ١٤]

ولا شك أن التخلص من عبادة الهوى المغلفة جزئيا أمر صعب، لأن الإنسان مادام يمارس نفس الجرائم فإنه سوف يظل يبررها لنفسه، وبالتالي يتضاءل احتمال التوبة والعياذ بالله

عبادة الهوى المغلفة كليا

عبادة الهوى

هذا هو أخطر أنواع الهوى وأكثرها انتشارا بين الناس، فصاحبه غالبا يعتقد أنه أبعد الناس عن اتباع الهوى، وأنه يتبع القرآن والسنة.

يبدأ هذا النوع باتخاذ موقف معين تدعمه النصوص الشرعية في حدود معينة، ثم يتوسع عابد الهوى فيتجاوز تلك الحدود مدفوعا بهواه، وهنا تبدأ عبادة الهوى.

ولكي يتضح الأمر أضرب المثال التالي:

هناك طائفة كبيرة من الناس تحب السلام، وعلاقاتها مع الكفار علاقات تتسم باللين والصفح وحب الخير لهم دون ضابط، هذه الطائفة تعتمد على أدلة كثيرة منها قوله تعالى: 

﴿لا يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾ 

[الممتحنة: ٨]

وتقول أنها تتأسى بالأنبياء في خوفهم على أنبيائهم 

﴿أَن لا تَعبُدوا إِلَّا اللَّهَ إِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ أَليمٍ﴾ 

[هود: ٢٦]

وأنها تفعل ما تفعل حرصا على هداية الكفار.

ولا شك أن كل ما سبق آيات صريحة وليس فيها لبس، وإنما المشكلة في التطرف في هذا المنهج، وتعميمه على جميع الكفار، مما يعني تجاهل آيات أخرى تتحدث عن عداوة الكفار والبراءة منهم ومن دينهم وعدم مداهنتهم مثل قوله تعالى: 

﴿قَد كانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهيمَ وَالَّذينَ مَعَهُ إِذ قالوا لِقَومِهِم إِنّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ كَفَرنا بِكُم وَبَدا بَينَنا وَبَينَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغضاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤمِنوا بِاللَّهِ وَحدَهُ إِلّا قَولَ إِبراهيمَ لِأَبيهِ لَأَستَغفِرَنَّ لَكَ وَما أَملِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيءٍ رَبَّنا عَلَيكَ تَوَكَّلنا وَإِلَيكَ أَنَبنا وَإِلَيكَ المَصيرُ﴾ 

[الممتحنة: ٤]

ومثل قوله تعالى:

﴿قُل يا أَيُّهَا الكافِرونَ۝لا أَعبُدُ ما تَعبُدونَ۝وَلا أَنتُم عابِدونَ ما أَعبُدُ۝وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدتُم۝وَلا أَنتُم عابِدونَ ما أَعبُدُ۝لَكُم دينُكُم وَلِيَ دينِ﴾ [الكافرون: ١-٦]

وغيرها من الآيات، والسبب هو الهوى الخفي، فهؤلاء أنفسهم تهوى نمط العيش المهادن للكفار المائع، وبالتالي فإن استشهادهم بالآيات لم يكن اتباعا للآيات، وإنما اتباعا لهواهم، ولذلك لم يتبعوا الآيات التي تخالف هواهم.

في مقابل هؤلاء هناك صنف آخر مضاد يجد هواه في الإمعان في معاداة الكفار جميعهم دون تمييز، فتراه يبالغ في معاداة الكفار واعتبار ذلك هو الدين كله، والذي لا يقوم به منافق كافر مثل بقية الكفار.

هذا الصنف أيضا يعبد هواه، ولذلك هو يكفر بالآيات التي تخالفه مثل قوله تعالى: 

﴿لا يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقاتِلوكُم فِي الدّينِ وَلَم يُخرِجوكُم مِن دِيارِكُم أَن تَبَرّوهُم وَتُقسِطوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطينَ﴾ 

[الممتحنة: ٨]

ولذلك لا فرق بينه وبين سابقه فكلاهما يعبد هواه والعياذ بالله.

كيف ننجوا من عبادة الهوى

سبق وشرحت بالتفصيل في بحث كيف نفهم القرآن والسنة ضرورة التجرد من كل تصور لكي نستطيع أن نستفيد من الوحي، وهذا أمر أوأكد عليه هنا، فلابد من مراجعة شاملة لكي ما نعتقده على غرار ما فعلت في بحث كيف نكون مسلمين حقا

كذلك لابد من استحضار الآخرة وحقيقة أنه أن ينفعنا غير التجرد المطلق للحق والإنابة إلى الله، فالله قد وعد من أناب إليه بالهداية في قوله: 

﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُل إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ وَيَهدي إِلَيهِ مَن أَنابَ﴾ 

[الرعد: ٢٧]

وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.

تحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-