وقفات مع قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء

ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء

إن قول الله جل جلاله: 

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل:٨٩]

فرقان بين الحق والباطل، فهو يعلن بأوضح عبارة وأقواها أن الله أنزل الكتاب ليبين كل شيء، وليكون هدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وفيما يلي سوف نقف مع هذا الآية الوقفات التالية: 

الناس مع هذه الآية

تقسم هذه الآية الناس إلى قسمين ، مؤمن بها مستبشر، وآخر كافر بها، شاك في صدقها، يحاول أن يحرفها عن معناها الذي وضعت له. 

فأما المؤمن بها فهو يصدق بأن الله فعلا نزل الكتاب تبيانا لكل شيء، فلا يوجد شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا إلا وفي كتاب الله تبيانه، سواء علمه، أم جهله. 

لذلك عندما يحتاج إلى معرفة الحق في أي شيء، بما فيه حكم الله في أي شيء، فإنه يتجه إلى وحي الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، إما مباشرة، أو من خلال سؤال من هم أعلم بالوحي منه، وهو على يقين بأنه سوف يجد حكم الله قطعا في المسألة، إما بنفسه، أو خلال فتوى غيره بما في القرآن والسنة حصرا. 

هذا المؤمن تحققت له الهداية إلى حكم الله بعد أن وجده في وحي الله، وبهذا تحققت فيه الصفة: 

وَهُدًى 

وتحققت له الرحمة المتمثلة في عدة مسائل من بينها:

    • هداية الله له إلى الحق في مسألته
    • الرحمة في حكم الله الذي وجده
    • السلامة من الشك والريبة
    • السلامة من الاختلاف

ومن ثم تحققت فيه الصفة الثانية: 

وَرَحمَةً 

وتحققت له البشارة العظيمة حين وجد أمر الله ليطيعه، والمتمثلة في قوله تعالى : 

﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقًا۝ذلِكَ الفَضلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَليمًا﴾ 

[النساء: ٦٩-٧٠] 

ولقد أكد الله جل جلاله هذه الصفات في مواضع عديدة منها قوله تعالى: 

﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ 

[النحل: ٦٤] 

فالمؤمن دوما مهتد بكتاب الله، على بينة من ربه، قد رحمه فعصمه من الضلال والاختلاف والتخبط في الظلمات، فهو كما قال ربنا عن وجل عنه: 

﴿أَوَمَن كانَ مَيتًا فَأَحيَيناهُ وَجَعَلنا لَهُ نورًا يَمشي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلكافِرينَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ 

[الأنعام: ١٢٢] 

فهو حي، يحمل معه نورا ينير دربه، بينما يقبع غيره في الظلمات 

 والعياذ بالله

أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس

أما الكافر بقوله تعالى: 

﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ 

[النحل: ٨٩] 

فإنه عندما أعرض عن بيان الله، بقي يتخبط في الظلمات بغير هدى، تتقاذفه أمواج الظنون، يقول له المفتي الأول إن حكمك هو كذا، وهذا ليس حكم الله، وإنما هو ظني واجتهادي، فإذا تجاوزه إلى مفت آخر يقول له بل حكمك هو كذا على النقيض من فتوى الأول، يتخبط في الظلمات، يصدق عليه قول ربنا عز وجل: 

﴿قُل أَنَدعو مِن دونِ اللَّهِ ما لا يَنفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعقابِنا بَعدَ إِذ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي استَهوَتهُ الشَّياطينُ فِي الأَرضِ حَيرانَ لَهُ أَصحابٌ يَدعونَهُ إِلَى الهُدَى ائتِنا قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدى وَأُمِرنا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العالَمينَ﴾ 

[الأنعام: ٧١] 

كل فريق يزعم أنه أقرب إلى الحق من الفريق الآخر، وهو حائر بينهم، لا يعرف من يتبع، فهم متشاكسون تماما كما ذكر ربنا عن وجل: 

﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَستَوِيانِ مَثَلًا الحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ﴾ 

[الزمر: ٢٩] 

ولنضرب مثلا لذلك : 

يأتي هذا الحيران يسأل عن حكم صلاة فاقد الطهورين الماء والتراب، فيسأل المفتي الأول فيقول له: 

لقد سقطت عنك الصلاة، فلا تصلي ولا تعد صلاتك إذا وجدت أحد الطهورين.

ويقول له المفتي الثاني العكس تماما: 

عليك أن تصلي، وأن تعيد صلاتك إذا وجدت أحد الطهورين.

ويقول له المفتي الثالث : 

عليك أن لا تصلي، ولكن متى وجدت أحد الطهورين لزمك القضاء. 

ويقول له المفتي الرابع: 

عليك أن تصلي وليس عليك القضاء. 

وهكذا يظل حيرانا، إذا أطاع أحدهم عصى الثلاثة الباقين، وليس له أن يفضل أحدهم على الآخر فهم كلهم علماء أئمة في المذهب المالكي الذي يتبعه. 

أما المؤمن فإنه حين يسأل عن الفتوى يسأل عن حكم الله ورسوله، حيث الهدى والرحمة واليسر، فإذا سأل عن حكم المسألة السابقة يجد جواب الحبيب صلى الله عليه وسلم: 

عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (دَعُونِي مَا تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم). 

البخاري، صحيح البخاري، الحديث رقم 6858 

وصاحبنا لا يستطيع الطهارة لأنه فاقد للطهورين، ولكنه يستطيع الصلاة، لذلك عليه أن يصلي لأنها هي التي في استطاعته، وهي الواجبة عليه حينئذ، فقد سقطت عنه الطهارة لعدم قدرته عليها، وانتهى الأمر.

كيف تم تحريف هذه الآية عن معناها الذي وضعت له

من الجلي الواضح أن هذه الآية تقف حصنا منيعا أمام الفتوى بالرأي، فهي صريحة في كون الله فصَّل كل شيء تفصيلا، لذلك لكي يجد أهل الرأي مبررا لفتاويهم عليهم أن يحرفوا هذه الآية عن معناها الذي وضعت له، والذي دلت عليه ألفاظها، وهو أن الله أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء إلى العكس تماما وهو أن الله لم يبين حكم كل شيء ولذلك لا مناص من الرأي الذي يسمونه الاجتهاد 

بدأ هذا التحريف أول ما بدأ من تحريف معنى الكتاب من الرسالة أي القرآن والسنة، إلى القرآن فقط، مع أن كلمة الكتاب وردت في القرآن غالبا بمعنى الرسالة من ذلك قوله تعالى: 

﴿قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالَوا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَينَنا وَبَينَكُم أَلّا نَعبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنا بَعضًا أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقولُوا اشهَدوا بِأَنّا مُسلِمونَ﴾ 

[آل عمران: ٦٤] 

فأهل الكتاب هم أهل الرسالة، فلكل طائفة منهم كتابهم، التوراة لليهود والإنجيل للنصارى. 

كذلك قوله تعالى: 

﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فيمَا اختَلَفوا فيهِ وَمَا اختَلَفَ فيهِ إِلَّا الَّذينَ أوتوهُ مِن بَعدِ ما جاءَتهُمُ البَيِّناتُ بَغيًا بَينَهُم فَهَدَى اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا لِمَا اختَلَفوا فيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِهِ وَاللَّهُ يَهدي مَن يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ 

[البقرة: ٢١٣] 

أي أنزل معهم رسالته، وهذه الرسالة أحيانا تكون في صحف، كصحف إبراهيم وموسى، وأحيانا لا تكون في صحف، كما هي الحال مع رسول الله نوح صلى الله عليه وسلم، فالأصل أن يطاع الرسول في كل ما أخبر به عن ربه، سواء كان ما أخبر به هو كلام الله نفسه، أو أوامر الله صاغها الرسول بلسانه، فكل ذلك من رسالة الله أي الكتاب. 

نفس المعنى يظهر جليا في قوله تعالى: 

﴿وَما كانَ هذَا القُرآنُ أَن يُفتَرى مِن دونِ اللَّهِ وَلكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ الكِتابِ لا رَيبَ فيهِ مِن رَبِّ العالَمينَ﴾ 

[يونس: ٣٧] 

فالقرآن تفصيل الكتاب، أي الرسالة، لذلك تحريف معنى الكتاب من الرسالة، أي القرآن والسنة، إلى القرآن فقط، هو تحريف خطير سوف يؤدي حتما إلى تكذيب الآية، لأن القرآنَ ليس فيه تبيان كل الدين، فضلا عن تبيان كل شيء، فبيان الكثير من شعائر الإسلام إنما هو موجود في السنة، وليس موجودا في القرآن. 

هذا التكذيب هو الذي مهَّد إلى تحريف الآية عن معناها الأصلي، وجعلها تدل على معنى مخالف، وهو أن القرآن فيه المبادئ والأساسيات التي على المجتهد مراعاتها في استنباط الاحكام التفصيلية للحوادث الفرعية، وهذا المعنى لو تأملت هو نقيض معنى الآية لأنه يعني أن الكتاب يحوي الأحكام بصفة مجملة، وليست مفصلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

تحميل المقال بصيغة pdf

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-